ارتبطت كلمة الصهيونية في الأذهان بالكاتب والصحفي النمساوي/المجري تيودور هرتزل صاحب كتاب دولة اليهود، Der Judenstaat، والذي ترأس أول مؤتمر للحركة الصهيونية في مدينة بازل السويسرية سنة 1897. لكن مصطلح الصهيونية لا يعود إلى تيودور هرتزل، بل ابتكره باللغة الألمانية الكاتب اليهودي السويسري ناتان بيرنهاوم Nathan Birnhaum سنة 1890، مُسـتوحيا التسـمية مـن كلمة صهيـون، وهي اسـم لإحـدى التـلال في مدينة أورشليم أي القـدس.
وأورشليم هي كلمة سومرية كنعانية، أور بالسومرية تعني مدينة، وشليم في الكنعانية تعني السلام، أي مدينة السلام. وردت كلمة صهيون في عدة مواضع في الكتاب المقدس، حيث جاء في سفر المزامير، “لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ، اشْتَهَاهَا مَسْكَنًا لَهُ”. لكن لم يكن لهذا الإسم أية قيمة روحية خاصة عند اليهود.
ظهر المشروع الصهيوني في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر كحل لما عرف بالمسألة اليهودية، وهدف إلى تهجير اليهود وتوطينهم في وطن قومي خاص بهم، ورفض فكرة إندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية، وناهض سلبية اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية التي كانت تدعو اليهود إلى البقاء في الجيتو وانتظار الماشيح اليهودي المخلّص الذي سيقودهم إلى أرض الميعاد. ولد هذا المشروع منبوذا داخل الجماعات اليهودية في أوروبا، واعتبره الحاخامات ضربا من ضروب الهرطقة العلمانية ولا يمت بصلة للعقيدة اليهودية. واعتبره اليهود الليبراليون، دعاة الإنصهار في المجتمعات الأوروبية أنه مشروع شوفيني يصب الماء في طاحونة التيار المعادي للسامية ويغذّي الكراهية ضد اليهود. لكن الصهيونية، التي بدأت فكرة منبوذة ستصبح في القرن العشرين هي المشروع المهيمن والحل الرئيس للمسألة اليهودية.
فما هي الجذور العقائدية للصهيونية؟
وماهي العوامل الإقتصادية والإجتماعية في أوروبا التي ساهمت في تجذّر المشروع الصهيوني داخل الجماعات اليهودية؟
وما هي الرهانات الجيواستراتجية وقتئذ لبريطانيا خصوصا وللغرب عموما من خلال دعمه للحركة الصهيونية؟
إذا كانت الفكرة الرئيسية للصهيونية
هي عودة اليهود إلى “وطن أجدادهم” ، (إرتس يسرائيل) (Eretz Yisrael) حسب ما جاء في الوعد الإلهي، فإن هذه الفكرة تجد جذورها في عقائد الكنيسة البروتستانتية منذ القرن السادس عشر ميلادي، أي حوالي ثلاثة قرون قبل مشروع تيودور هرتزل، كيف ولدت الصهيونية البروتستانتية قبل ولادة الصهيونية اليهودية؟
في بداية القرن السادس عشر ميلادي، تمرّد الراهب “مارتن لوثر” على الفاتيكان، وانتقد سلطة البابا المطلقة، ونادى بإصلاح ديني جذري، نتج عنه حروب دينية دموية أدت إلى تقسيم العالم المسيحي إلى مذهبين رئيسيين، الكاثولكية، وهي المسيحية البابوية، والبروتستانتية، وهي المسيحية اللوثرية والكلفانية. وكان الموقف من اليهود من أهم نقاط الخلاف بين الكاثولكيك والبروتسنتات. الكنيسة الكاثولكية اعتبرت ان فلسطين أرض مسيحية مقدسة، واليهود شرّدهم الرب لخطاياهم، وهم ليسوا شعب الله المختار لأن الرب قد نزع عنهم هذه المزية ومنحها لأمة أخرى، وهي أمّة المسيح، حيث جاء في إنجيل متى ما يلي: “لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ سَيُنْزَعُ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَيُسَلَّمُ إِلَى شَعْبٍ يُؤَدِّي ثَمَرَهُ”. وأوضح بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين، والقديس أوغسطين بعده بأربعة قرون بأن المسيح يسوع هو “الماشيح المخلص” الذى كان اليهود ينتظرونه، وأنه لا مخلّص بعده. الكنيسة الكاثولكية رغم أنها حمّلت اليهود مسؤولية موت المسيح إلا أنها دعت للحفاظ عليهم كشعب شاهد، ودليل على صدق الكتاب المقدس.
أمّا بالنسبة للمذهب البروتستانتي فإن الإصلاح اللوثري وخاصة في إنجلترا سيقوّض السلطة الروحية البابوية، وسيجعل من العهد القديم التوراتي إلى جانب العهد الجديد مصدرين للتشريع، و ستتحول التوراة إلى كتابي التاريخ والجغرافيا المقدّسين، فهي وحي معصوم وعلى المؤمن تفسيرها حرفيا. سيُماثل المؤمنون البروتستانت بين أرض إنجلترا وأرض مملكة يهودا القديمة وبين أرض جارتها الشمالية اسكتلندا وأرض مملكة إسرائيل القديمة، وسيتخذون اسماء عبرية عوض الأسماء المسيحية التقليدية، وسيفضّلون وصايا النبي موسى العشر، والتشدد الأخلاقي لاله العهد القديم يهوا على مغفرة وتسامح المسيح الكاثوليكي.
شغلت فكرة عودة اليهود إلى فلسطين النخب الفكرية والسياسية البروتستانتية في إنجلترا، وسيكون عالم اللاهوت الإنجليزي توماس برايتمان الذي عاش في القرن السادس عشر، من الأوائل الذين دعوا لعودة اليهود إلى فلسطين وطن آبائهم الأولين على حد زعمه، وعلى خطاه نشر سنة 1621 السير هنري فينش Henry Finch المستشار القانوني لملك إنجلترا نداء حمل عنوان “الإستعادة العظمى” The World’s great restoration وطالب فيه الأمراء المسيحيون باستعادة الأمة اليهودية. وفي سنة 1649 قدما مواطنان إنجليزيان مقيمان في أمستردام وهما من عائلة كارترايت Cartwright البيوريتانية البروتستانتية إلتماسا للحكومة الإنجليزية جاء فيه، “ليكن شعب إنجلترا وسكان الأراضي المنخفضة أي هولندا أول من يحمل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وُعد بها أجدادهم إبراهيم وإسحق ويعقوب لتكون إرثهم الأبدي”.
سنة 1649 تمكن أوليفر كرومويل Oliver Cromwell، زعيم البيوريتانية البروتستانتية من السيطرة على حكم إنجلترا وتحويلها إلى جمهورية بعد أن هزم الملكيين في الحرب الأهلية، كرومويل سيسمح لليهود بالعودة لإنجلترا لأوّل مرّة بعد أن طردهم الملك إدوارد الأول سنة 1290. القائد الجديد للكومنيويلث الإنجليزي تأثر بكتاب للحاخام اليهودي مناسح بن إسرائيل (Menasseh Ben Israel)، الذي نُشر في مدينة أمستردام سنة 1650، وحمل عنوان “أمل إسرائيل” (Hope of Israel)، ودعا فيه إلى السماح لليهود بالعودة إلى إنجلترا حتى يكتمل شتاتهم في العالم، ثم يتم تجميعهم في فلسطين.
أعطت هذه الموضة العبرية في إنجلترا دفعا جديدا للعقيدة الألفية الإسترجاعية في الأوساط البروتستانتية، وتجد هذه العقيدة أصولها في الديانة اليهودية، وتنص على أن المسيح المخلِّص (أو الماشيَّح حسب الرؤية اليهودية) سيعود ليحكم العالم لمدة ألف عام، وهي ألفية سيسود فيها السلام و العدل بين الناس. ولتعجيل هذه العودة للمسيح، لابد من تحقيق شرط رئيسي وهو عودة بني إسرائيل إلى أرض صهيون في فلسطين. ولم تكن هذه الرغبة البروتستانتية بدافع المحبة لليهود الذين كانوا يعانون من الظلم والقهر في أوروبا المسيحية بل فقط لتحقيق عقيدة مسيحية، فاليهود هم مجرد أداة خلاص المسيح لا غير، لأن مصيرهم عند عودته سيكون إمّا الإبادة أو إعتناق المسيحية.
يُستخلص أن الأوساط البروتستانتية في إنجلترا هي من كانت منبت الفكرة الصهيونية وليست الجماعات اليهودية سجينة الجيتو الحاخامي، ومن أهم الكتّاب والباحثين المدافعين عن هذه الأطروحة، نجد المفكر ياكوف رابكن، أستاذ التاريخ اليهودي في جامعة مونتريال بكندا، وصاحب كتاب المناهضة للصهيونية، ونجد كذلك المفكر المصري عبد الوهاب المسيري صاحب موسوعة، اليهود واليهودية والصهيونية، ونجد كذلك المؤرّخ الإسرائيلي الشهير شلومو ساند صاحب كتابي اختراع الشعب اليهودي و اختراع أرض إسرائيل. أثبت هؤلاء الباحثون أن الفكرة الصهيونية بدأت داخل الأوساط البروتستانتية الإنجليزية، ولم تنتقل إلى النخب اليهودية إلاّ في نهاية القرن التاسع عشر مع الكاتب والصحفي النمساوي/المجري تيودور هرتزل.
فمن يكون تيودور هرتزل؟ الذي تحوّل إلى الصنم الرئيس في الفكر الصهيوني، وكيف عمل على إقناع اليهود بأن تحررهم لن يأتي من الماشيح المخلص الذي انتظروه عبثا لألفي عام ولكن من خلال إقامة وطن قومي خاص بهم.
ولد تيودور هرتزل سنة 1860 بمدينة بودابست المجرية، والده جاكوب هرتزل كان تاجرا ثريا. حمل الطفل تيودور ثلاثة أسماء، اسم عبري، بنيامين زئيف، واسم مجري، “تيڥادار”، واسم ألماني “تيودور”. نشأ في عائلة يهودية برجوازية مندمجة في المجتمع النمساوي والثقافة الألمانية، التحق بمدرسة تلمودية لمدة اربع سنوات فقط، ثمّ واصل تعليمه بمدرسة مسيحية بروتستانتية، بعدها إلتحق بجامعة فيينا سنة 1884 أين تحصل على دكتوراه في القانون، ولكنه لن يعمل طويلا بمهنة المحاماة، وسيتفرغ لهوايته في الكتابة المسرحية والأدبية. كتب ستة عشر نصا مسرحيا، لم تجد أعماله رواجا كبيرا، اهمها مسرحية حملت عنوان “الجيتو الجديد” كتبها سنة 1894 وصوّر فيها ملامح الشرائح الإجتماعية المختلفة ليهود مدينة فيينا، فكان من بين الشخوص، حاخام يتحسّر على زمن العيش في جيتو العزلة بعيدا عن الأغيار وهو يمثل اليهودية الأرثوذكسية، ومصرفي يهودي غني يريد العيش مثل الطبقة الارستقراطية في فيينا، و يهودي فقير يتكلم اللغة اليديشية يمثل يهود أوروبا الوسطى والشرقية، و الشخصية الرئيسية كانت شخصية محام يهودي مدافع عن القيم الليبرالية للبرجوازية و هذا المحامي سيقتل في نزال مع ضابط نمساوي معاد للسامية. هذه الشخصية في مسرحية “الجيتو الجديد” هي في الحقيقة تعبر عن شخصية تيودور هرتزل، الذي أراد من خلال عمله المسرحي ان يثبت ان اليهود مهما كانت درجة اندماجهم في المجتمع النمساوي فإنهم يشعرون أنهم سجناء جيتو روحي من المستحيل مغادرته. سيكون الوضع الخاص لليهود في فيينا الشغل الشاغل لتيودو هرتزل، في البداية كان يعتبر ان الإندماج والخروج من الجيتو هو الحل الوحيد لوضع حد لمأساة اليهود. كان هرتزل يهوديًا علمانيا غير ملتزم بشعائر العقيدة اليهودية، فقرر أن لا يختن إبنه كما تقتضيه الشريعة اليهودية، ووصل به الأمر إلى حثّ يهود فيينا على إعتناق المسيحية، ودعوة بابا الفاتيكان إلى المجيء إلى المدينة للإشراف على حفل تعميد جماعي لليهود.
بالإضافة إلى الكتابة المسرحية، سيشتغل تيودور هرتزل في مجال الصحافة، وابتداء من سنة 1891 سيصبح مراسلا لأحد الصحف النمساوية الكبرى في العاصمة الفرنسية باريس. وسيقوم سنة 1894 بتغطية محاكمة الضابط اليهودي الفرنسي، ألفريد دريفوس، الذي وُجهت له تهمة الخيانة العظمى لصالح ألمانيا. في الخامس من شهر يناير/كانون الثاني سنة 1895 وفي ساحة الشرف بالكلية العسكرية بباريس سيشهد الصحفي تيودور هرتزل تجريد الضابط ألفريد دريفوس من كل رتبه العسكرية أمام أربعة ألاف جندي، وبحضور حوالي 20000 شخص كانوا يصرخون الموت لليهود، الموت للخونة. في ما بعد أصدرت المحكمة العسكرية قرارها بسجن دريفوس مدى الحياة ونفيه إلى جزيرة الشيطان في غويانا الفرنسية. لكن القضية لن تتوقف عند هذا الحد، سنة 1896 سيكشف العقيد في المخابرات العسكرية الفرنسية Marie-Gorges Picquard أن الجاسوس الذي عمل لصالح الجيش الألماني هو رائد في الجيش الفرنسي يدعى Ferdinand Esterhazy وليس ألفريد دريفوس.
تستّرت قيادة الجيش الفرنسي على الفضيحة، ورفضت إعادة النظر في ملف القضية، وسلطت عقوبة تأديبية على العقيد Picquard بنقله إلى تونس، التي كانت مستعمرة فرنسية وقتئذ. لكن عائلة دريفوس ستسرّب الملف للصحافة، وستصبح قضية دريفوس قضية الرأي العام الفرنسي. في الثالث عشر من شهر يناير سنة 1898 سينشر الكاتب الفرنسي الكبير إميل زولا رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية فيليكس فور Faure في صحيفة “الفجر” الفرنسية L’Aurore، حملت عنوان :”إني أتهم” J’accuse…! دافع فيها عن براءة الضابط دريفوس.
سيدفع زولا ثمن هذا الموقف النبيل غاليا، حيث صدر ضده حكما بسنة سجن وبخطية مالية بثلاث ألاف فرنك فرنسي، وسيتم تجريده من وسام الشرف الفرنسي. توسعت دائرة المؤيدين لدريفوس بسرعة كبيرة، وأسس مجموعة من المثقفين المساندين له في الرابع من شهر حزيران/جوان سنة 1898 رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان، التي ستقود حملة الإحتجاجات للمطالبة بإطلاق سراحه. وأمام الضغط الكبير للرأي العام المحلي والأجنبي أصدر رئيس الجمهورية الفرنسية Émile Loubet في التاسع عشر من شهر سبتمبر/أيلول سنة 1899 عفوا رئاسيا خاصا على الضابط دريفوس، وفي الثاني عشر من شهر يوليو/ تموز سنة 1906 ستصدر محكمة النقض بمدينة ران الفرنسية Rennes حكما يقضي بتبرئته نهائيا من كل التهم التي نسبت إليه.
في الرابع من شهر يونيو/ حزيران سنة 1908 سينقل رماد جثمان الكاتب الفرنسي اميل زولا إلى مقبرة العظماء Le Panthéon في الحي اللاتني بباريس، وكان ألفريد دريفوس من الشخصيات الفرنسية المرموقة التي حضرت حفل التأبين، و أثناء الحفل سيتعرض لمحاولة اغتيال بطلق ناري من طرف صحفي يميني معادي للسامية يدعى لويس جريجوري Louis Grégori، لكنه نجا من الموت بأعجوبة وأصيب فقط على مستوى ذراعه. سيعود ألفريد دريفوس إلى الخدمة العسكرية بالجيش الفرنسي برتبة مقدّم وسيحارب خلال الحرب العالمية الأولى في صفوف جيش بلاده ضد الجيش الألماني.
كان لمحاكمة ألفريد دريفوس أثر كبير على تيودور هرتزل، كتب في ما بعد أن هذه المحاكمة هي التي جعلت منه صهيونيًا ودفعته إلى وضع كتابه دولة اليهود. هذا الكتيب الصغير المتكون من 23 الف كلمة فقط، نُشر سنة 1896، سيكون إنجيل الحركة الصهيونية، رغم أنه لم يكن أول أثر فكري يتناول المشروع الصهيوني فقد سبقه كتابان لمفكرين يهوديين وهما، كتاب “روما والقدس” للمفكر الإشتراكي موشي هس Moses Hess الذي صدر سنة 1862 و كتاب “الإنعتاق الذاتي” للمفكّر ليون بنسكر Léon Pinsker الذي نُشر سنة 1882. لكن هذين الكتابين لن يشهدا نفس الإشعاع الذي شهده كتاب تيودور هرتزل، ويعود ذلك إلى أنه كان كتابا بسيطا وعمليا، فهو بمثابة خارطة طريق واقعية لبناء دولة وليس مجرد حلم مثالي.
يتكوّن الكتاب من حوالي مائة صفحة، وينقسم إلى أربعة فصول رئيسية. بعد المقدمة، يتناول هرتزل في الفصل الأول، المسألة اليهودية و معاداة السامية، ويبين ان معاداة السامية هي مرض عضال لا يمكن للمجتمعات الغربية أن تُشفى منه، ويعتبر ان إندماج اليهود في هذه المجتمعات هو مجرّد وهم، فيقول: “لقد سعينا باخلاص في كل مكان لكي نندمج في حياة المجتمعات المحيطة بنا وللمحافظة على ديانة آبائنا وأجدادنا. لكن لم يسمح لنا بفعل ذلك، فعبثا حاولنا أن نكون وطنيين أوفياء، وقد ذهبنا في ولائنا للوطن هنا وهناك إلى أقصى الحدود، وعبثا نقدم التضحيات نفسها في الأرواح و الأموال التي يقدمها إخواننا أبناء البلد، وعبثا نجهد في اعلاء شأن بلادنا في العلوم والفنون، أو في انماء ثروتها بأعمال المبادلات والتجارة.”
يستنتج تيودور هرتزل ان الحل الجذري للمسألة اليهودية هو إيجاد وطن قومي خاص باليهود، ويقول : “إن المسألة اليهودية هي مسألة قومية لا يمكن حلها إلا بجعلها مسألة سياسية عالمية تبحثها وتُسوّيها الأمم المتحضرة في منتدى عالمي.” وفي هذا الفصل من كتابه لم يحدد تيودور هرتزل الأرض التي سيقام عليها هذا الوطن، وسيبقى المشروع الصهيوني لعدة سنوات غامضا حول هوية الأرض التي ستقام عليها الدولة الصهيونية. خصص تيودور هرتزل في كتابه فقرة كاملة حملت عنوان فلسطين أم الأرجنتين؟، ويقول متسائلا: هل يتعيّن علينا إختيار فلسطين أم الأرجنتين؟ ثم يجيب: سنأخذ ما يعطى لنا، وما يختاره الرأي العام اليهودي، ويضيف ” الأرجنتين واحدة من أخصب دول العالم، وتمتد لمساحة هائلة، وهي ذات كثافة سكانية ضئيلة، ومناخ معتدل. ولسوف تحصل جمهورية الأرجنتين على أرباح هائلة نذير تنازلها عن جزء من أرضها لنا(…)أما فلسطين فهي وطننا التاريخي الخالد في ذاكرتنا أبد الدهر، فمجرد ذكر اسم فلسطين يجذب شعبنا بقوة هائلة، فإذا ما أعطانا فخامة السلطان فلسطين، سنقوم بدورنا بتدبير جميع الموارد المالية لتركيا، حيث يتعيّن أن نشكل هناك جزءا من السور الواقي لأوروبا ضد آسيا، حائط صد أمامي للحضارة مقابل البربرية.”
في الفصل الثاني من كتابه إلى يشرح تيودور هرتزل كيفية تمويل هذا المشروع الإستيطاني، ويقترح فكرة تأسيس شركة استثمارية يهودية، يقول متحدّثا عن فكرة الشركة اليهودية:” تكون الشركة اليهودية أشبه بشركة أراض كبرى، تُشكل وفق القوانين الإنجليزية وتكون تحت حماية إنجلترا، وسيكون مركزها الرئيسي في لندن، ويقترح ان يكون رأسمالها نحو خمسين مليون جنيه إسترليني، وهو مبلغ ضخم جدا بمقاييس ذلك العصر. هذه الشركة ستشتري الأراضي، وستشيّد المنازل للمستوطنين الذين بدورهم سيشيدون المدن الطرقات. كما سيكون من أدوارها تركيز عدة مصانع لتستوعب المهاجرين اليهود القادمين من كافة أصقاع العالم. يقترح هرتزل ان يكون يوم العمل في هذا الوطن الجديد سبع ساعات يوميا.
في الفصل الثالث من كتابه سيشرح تيودور هرتزل كيفية تهجير اليهود إلى هذا الوطن الجديد، فيقترح أن تكون الهجرة في جماعات من الأسر والأصدقاء، وكل جماعة لها الحق أن تقيم مستوطنة خاصة بها، ويصطحب كل جماعة حاخاما خاصا يكون زعيمها الروحي ويكون مبشرا وداعيا للمشروع الصهيوني من منبر الكنيس.
ويؤكد هرتزل انه ليس من الضروري بذل جهود كبيرة لتحفيز حركة هجرة اليهود في اتجاه وطنهم القومي الجديد، فالمعادون للسامية سيتكفلون بتوفير كل أسباب رحيل اليهود من أوروبا بالإعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم. هرتزل يشرح كيف ان معاداة السامية وكراهية اليهود هي الشرط الضروري لنجاح مشروع الإستيطان الصهيوني.
في الفصل الرابع من كتابه يتناول هرتزل الأداة السياسية لتحقيق المشروع ويسميها جمعية اليهود، وهي النواة الأولى لدولة اليهود، وفي هذا الفصل الهام يتحدث هرتزل عن خصائص العقد الإجتماعي للدولة الجديدة، عن دستورها، وعن شكل نظام الحكم، وكان يميل إلى الملكية الديمقراطية أوالجمهورية الأرستقراطية، ويرفض رفضا مطلقا حكومة دينية، أو حكومة عسكرية، حيث يقول في كتابه: ” هل سينتهي الأمر بنا إلى حكومة دينية؟ كلا، إن الإيمان يوحدنا والمعرفة تمنحنا الحرية. لذلك فإننا سنحول دون ظهور اتجاهات ثيوقراطية من طرف كهنتنا، فسنبقي على هؤلاء ضمن حدود المعابد، تماما كما سنبقي على جيشنا المحترف ضمن حدود الثكنات. إن الجيش والكهنوت سيكونان موضع التكريم الرفيع الذي تستحقه وظائفهما القيمة. لكن عليهما عدم التدخل في إدارة الدولة التي تنعم عليهما بالإمتياز، وإلا فسيصطنعان المشاكل في الداخل والخارج.”
الغريب ان الكيان الصهيوني القائم اليوم تنكّر حتّى لمشروع هرتزل الأصلي، وانتهى إلى تحالف بين حاخامات اليمين الديني وبين مؤسسة جيش الإحتلال.
يواصل هرتزل شرح مقومات الدولة الجديدة فيتطرّق إلى قضية اللغة الرسمية لهذا الكيان، ويقف على مدى صعوبة إيجاد لغة موحدة للمجموعات اليهودية القادمة من ثقافات مختلفة وناطقة بلغات مختلفة، ويرى ان اللغة العبرية القديمة لا يمكن أن تكون أداة تواصل بين جميع اليهود، ويقترح ان تحتفظ كل مجموعة يهودية بلغتها، ويقدّم سويسرا كنموذجا لفدرالية الألسن. ثم يتطرّق هرتزل إلى ضرورة وضع علم للوطن الجديد، ويقول: ” إذا كانت رغبتنا هي قيادة العديد من الرجال فعلينا أن نرفع رمزا فوق رؤوسهم”، واقترح هرتزل ان يكون العلم أبيض اللون وتتوسطه سبع نجوم ذهبية، ويقول متحدثا عن رموز هذا العلم، يرمز البياض إلى حياتنا الجديدة النقية، وترمز السبع نجوم إلى الساعات السبع ليوم عملنا. ومن الواضح والجلي أن العلم الذي اقترحه مؤسس الصهيونية لا علاقة له بعلم الكيان الصهيوني اليوم، الذي تتوسطه نجمة داوود.
شهد كتاب دولة اليهود لتيودور هرتزل رواجا كبيرا، وتُرجم إلى عدة لغات. لكن هرتزل لن يبقي أفكاره على رفوف المكتبات، وسيمضي قدما لتحقيقها على أرض الواقع. بعد ثمانية عشر شهرا من نشر كتابه سينظم في شهر آب/ أغسطس سنة 1897 المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، وشارك فيه أكثر من مئتي مندوب جاؤوا من 24 دولة، وكان من المقرر ان يعقد هذا المؤتمر في مدينة ميونيخ الألمانية حيث توجد جالية يهودية كبيرة، لكن رفض الحاخامات اليهود المناهضين للفكرة الصهيونية حال دون ذلك. حدد المؤتمر كهدف رئيس خلق وطن قومي لليهود ووضع ثلاث أساليب لتحقيق هذا الهدف، أولا تشجيع التسلل والتوطين بفلسطين، ثانيا تقوية الإنتماء القومي اليهودي و احياء الثقافة اليهودية، ثالثا البحث عن دعم الدول الكبرى في العالم.
لم تكن الحركة الصهيونية حركة متجانسة بل كانت تشقها عدة تيارات، اهمها التيار الإستيطاني وكان يشجع على تسلل اليهود إلى فلسطين بصورة تدريجية ويتكون أساسا من اليهود الروس ويهود شرق أوروبا ويسمى بالصهيونية العملية أو التسللية، وتتكوّن نواته الأساسية من جماعة أطلقت على نفسها “أحباء صهيون” وقد اقترح هذا التيار انشاء صندوق لشراء الأراضي في فلسطين، وتجسدت هذه الفكرة بعد سنوات في ما عرف بالصندوق القومي اليهودي، أما التيار الثاني ويسمى بالصهيونية الثقافية من أهم رموزه المفكر آحاد هعام والذي دعا إلى الإهتمام بالروح اليهودية واعتبر ان ما يهدد اليهود هو الإنصهار في الثقافات الأخرى وترميم الروح اليهودية يسبق في تقديره تأسيس الدولة اليهودية. أما التيار الثالث فهو تيار الصهيونية السياسية أو الدبلوماسية ويمثله تيودور هرتزل وكان يعتبر انه لا يمكن تحقيق المشروع الصهيوني إلا برعاية الدول الغربية الكبرى وأن معاداة السامية في أوروبا هي احد العوامل الرئيسية لدفع يهود الشتات للإلتفاف حول المشروع الصهيوني. إختتم المؤتمر أشغاله بتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية واختيار تيودور هرتزل رئيسا لها.
استهل تيودور هرتزل نشاطه الدبلوماسي الحثيث بلقاء قيصر ألمانيا وليام الثاني، وتم هذا اللقاء في فلسطين التي كانت ولاية عثمانية وقتئذ، واقترح هرتزل على وليام الثاني دعم مشروعه الصهيوني مقابل خدمة المصالح الألمانية، وطلب منه أن يقنع صديقه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بأن يسمح لليهود بالإستيطان في فلسطين لاسطصلاح الأراضي الزراعية. لن يكتفي هرتزل بالوساطة الألمانية للوصول لمراكز القرار في اسطنبول بل سيسعى للتفاوض المباشر مع الباب العالي وسيقوم بخمس زيارات إلى اسطنبول بين سنتي 1896 و 1902( اثنتان منها كانتا على نفقة السلطان ). التقى تيودور هرتزل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في الثامن عشر من شهر أيار/مايو سنة 1901 وطلب منه السماح بهجرة اليهود إلى فلسطين مقابل تسهيل تمكين الامبراطرية العثمانية من قروض لتجاوز أزمتها المالية الحادة، و كذلك الإلتزام بوضع حد للدعم الأوروبي للأرمن المطالبين بالإستقلال عن الباب العالي. منح السلطان عبد الحميد الثاني وساما رفيعا لرئيس المنظمة الصهيونية تيودور هرتزل طمعا في الدعم المالي والسياسي من المنظمة الصهيونية العالمية للدولة العثمانية التي كانت على حافة الإفلاس. تجدر الإشارة ان السلطان عبد الحميد الثاني الذي حكم لمدة زادت عن ثلاث عقود من سنة 1867 إلى سنة 1909 ويحاول البعض اليوم تقديمه على أنه كان سدا منيعا أمام المشروع الصهيوني، شهد عهده إزدياد عدد المستوطنين اليهود في فلسطين إلى ثلاثة أضعاف، حيث كان عددهم لا يتجاوز 24 ألف نسمة سنة 1882 ليصبح حوالي 80 الف سنة 1908.
أيقن تيودور هرتزل وقيادة المنظمة الصهيونية العالمية ان الراعي الأمثل للمشروع الصهيوني ليس الباب العالي الرجل المريض، ولا حليفته ألمانيا، ولا فرنسا، بل بريطانيا العظمى، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. ومثّل المؤتمر الصهيوني الرابع الذي عقد سنة 1900 بلندن منعرجا حاسما في المشروع الصهيوني، فبعد تعاظم دور بريطانيا في منطقة الشرق الأوسط سيبحث هرتزل على الدعم البريطاني لمشروعه السياسي، وسيحاول إقناع الساسة البريطانيين أن حل المسألة اليهودية في المملكة المتحدة وأوروبا هو منح اليهود وطنا قوميا خاص بهم. وقد تسببت هجرة يهود شرق أوروبا وروسيا إلى بريطانيا في أزمة سياسية حادة في المملكة المتحدة، حيث بلغ عدد اليهود الذين وصلوا للبلاد بين سنتي 1881 و 1905 حوالي مئة ألف مهاجر. استقرّ معظمهم في الأحياء الشعبية بالعاصمة لندن، وهو ما تسبب في تعاظم ظاهرة معاداة السامية وكراهية اليهود داخل المجتمع البريطاني. ممّا دفع اليهود البريطانين أنفسهم وعلى رأسهم البارون روتشيلد حفاظا على مصالحهم إلى مطالبة الحكومة البريطانية بوقف تدفق هجرة اليهود القادمين من روسيا وشرق أوروبا.
يذكر المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند في كتابه اختراع أرض إسرائيل في الصفحة 182 ما يلي: لقد أثارت الهجرة من الإمبراطورية الروسية ومن رومانيا القلق في أوساط المؤسسات اليهودية المختلفة في أوروبا الوسطى والغربية. وأدى الخوف من تنامي العداء للسامية نتيجة مجيء اليهود الشرقيين إلى البحث عن طرق من أجل المساعدة أو التخلص من المهاجرين الغرباء. وإن قام رؤساء الطائفة اليهودية في ألمانيا بإرسالهم بكل الوسائل الممكنة نحو ميناء هامبورغ ليواصلوا طريقهم مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فإن أثرياء الجاليات اليهودية في فرنسا و بريطانيا بحثوا عن طرق أخرى من أجل تخفيف ضغط تدفق اللاجئين، فالبارون موريس دي هيرش Hirsch على سبيل المثال، تجند لهذه المهمة وتبرع بإنشاء مستعمرات لهم في الأرجنتين. أما البارون أدموند دي روتشيلد فقد قام بالشيء نفسه في فلسطين. ”
أمام تعاظم أزمة المهاجرين الوافدين على بريطانيا شُكّلت سنة 1902 لجنة ملكية لتنظيم هجرة اليهود، وقامت هذه اللجنة باستدعاء تيودور هرتزل بوصفه رئيس المنظمة الصهيونية العالمية لاستفساره عن مشروعه الهادف لتوطين اليهود خارج أوروبا، وفي نفس الإطار تم ترتيب لقاء شخصي بينه وبين جوزيف تشمبرلين وزير المستعمرات في المملكة المتحدة، في هذا اللقاء طرح هرتزل على تشمبرلين فكرة توطين اليهود في إحدى المستعمرات البريطانية، واقترح جزيرة قبرص أو العريش وشبه جزيرة سيناء في مصر، تشمبرلين سيرفض مقترح قبرص لأنها أرض مسيحية وسيقبل مقترح العريش وشبه جزيرة سيناء المصرية بشرط موافقة سلطة الحماية البريطانية بمصر. لكن رياح مصالح بريطانيا العظمى لن تجري بما اشتهت سفن هرتزل وتشمبرلن، وسترفض السلطات البريطانية في مصر مشروع توطين اليهود في العريش وشبه جزيرة سيناء.
غير أن هذا الرفض لن يثبّط من عزائم تشمبرلن لتحقيق هذه الفكرة الصهيونية وذلك ليس حبا في اليهود بل لأنه رأى أنه بتهجير اليهود خارج أوروبا سيصيب عُصفورين بحجر واحد، أولا سيتخلص من اليهود المهاجرين الغرباء الذين يتدفقون بعشرات الآلاف على المملكة المتحدة، وثانيا سينشئ جيبا استيطانيا أبيض من شأنه أن يساعد بريطانيا العظمي في السيطرة على مستعمراتها. في لقائه الثاني بتيودور هرتزل في الرابع والعشرين من شهر أبريل/نيسان سنة 1903 سيقترح تشمبرلن على رئيس المنظمة الصهيونية العالمية إقامة وطن لليهود في أوغندا شرق إفريقيا. تيودور هرتزل سيوافق على مقترح تشمبرلن وسيفرضه على نواب المؤتمر الصهيوني السادس الذي سينعقد في مدينة بازل السويسرية سنة 1903، رغم المعارضة الشديدة للتيار الصهيوني الذي يدعو للإستيطان بفلسطين. هذا المؤتمر سيكون آخر مؤتمر يترأسه تيودور هرتزل قبل وفاته في الثالث من شهر تموز/يوليو سنة 1904.
رحل تيودور هرتزل تاركا المنظمة الصهيونية العالمية منقسمة إلى شقين، شق استيطاني تسللي يدعو لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وشق برغماتي يدعو للقبول باقامة وطن لليهود في أوغندا. بعد جدل حاد بين الشقين تقرر إرسال لجنة إلى أوغندا لدراسة المقترح البريطاني.
خلال المؤتمر السابع للمنظمة الصهيونية العالمية الذي سيعقد في آب/أغسطس سنة 1905 في مدينة بازل السويسرية وهو أول مؤتمر بعد وفاة تيودور هرتزل، رُفض مقترح تشمبرلن وحسم الأمرة نهائيا لصالح مشروع التوطين في فلسطين.
(يتبع)…
*نجيب البكوشي باحث وكاتب تونسي
أهم المراجع:
*تيودور هرتزل، دولة اليهود،Der Judenstaat، ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية، لمؤسسها هاني الهلدي، دار البيروني للنشر والتوزيع، 1997.
*ياكوف رابكن، المناهضة اليهودية للصهيونية، ترجمة، د. دعد قنّاب عائدة، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، آذار/مارس 2006.
*موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبد الوهاب المسيري، الناشر، دار الشروق، 2004.
* شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة سعيد عيّاش، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 2011.
*شلومو ساند، اختراع “أرض إسرائيل”، ترجمة أنطوان شلحت وأسعد زعبي، صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، مدار، 2014.