هزاتٌ شديدة تعرَّض لها كلاً من السياق والتقليد في الانتخابات الفرنسية الأخيرة.
في السياق، تجاوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة ماري لوبين حواجزَ كأداء عرقلته لعقودٍ مضت، حيث نجح في السنوات الأخيرة بزيادة حصته من مجموع الناخبين في فرنسا بشكل لافت وتصاعدي تجلى بشكل قوي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2022، التي لامس فيها بوابة الأليزيه لكنه لم يتمكن من عبورها، ثم حقق عام 2024 تقدماً كاسحاً في انتخابات البرلمان الأوروبي حيث حصل على أعلى عدد من مقاعد البرلمان من بين الأحزاب الفرنسية الأخرى، وأخيراً وليس أخراً انتزاع أعلى نسبة من مقاعد الجمعية الوطنية الفرنسية بحصوله على 126 مقعداً من أصل 577 في الانتخابات البرلمانية الفرنسية التي جرت في تموز 2024، متفوقاً على حزب النهضة للرئيس ماكرون 98 مقعداً ، وعلى حزب فرنسا الأبية (المتمردة) 71 مقعداً.
في السياق أيضاَ، لم يتمكن أي من الأحزاب أو التحالفات من الحصول على الأغلبية المطلقة التي تعتبر شرطاً لازماً حتى يتمكن من تسمية رئيس الحكومة، وبالتالي تشكيل حكومة دون الخوف من عدم حصولها على ثقة البرلمان، حيث جرت العادة أن تكون حكومةَ لونٍ واحد بالتنسيق مع رئيس الجمهورية الذي يكون، أيضاً كما جرت العادة، من نفس الحزب أو التحالف الحاصل على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية، وتصطف باقي الأحزاب والكتل في البرلمان في ضفة المعارضة لهذه الحكومة.
الهزات الشديدة في السياق قادت فرنسا إلى هزات شديدة أخرى في التقاليد البرلمانية والحكومية، فعدم تسمية رئيس حكومة جديد دفع بالرئيس ماكرون إلى الطلب من رئيس الحكومة المستقيل غابرييل أتال الاستمرار بتصريف الأعمال الإدارية للحكومة لحين الانتهاء من الأولمبياد الرياضي الذي تحضر له فرنسا منذ سنوات، قرارٌ يمكن اعتباره سابقة في الحياة السياسية الفرنسية.
ولأول مرة أيضاً تجد فرنسا نفسها أمام استحقاق تقليدي لكن بمعطيات ومفردات غير تقليدية ومختلفة عما سبق وفق التقاليد البرلمانية والحكومية، فالجميع مطالبون اليوم كما قال الرئيس ماكرون بالتفكير بشكل جدي بتقديم تنازلات تفضي إلى إيجاد حل توافقي تشاركي يستطيع الرئيس الفرنسي أن يستند إليه في تسمية رئيس حكومة، وبالتالي تشكيل حكومة تحظى بثقة الجمعية الوطنية، لتتمكن هذه الحكومة بدورها من إدارة وقيادة البلاد بنجاح ودون معوقات حتى الانتخابات المقبلة، انتخابات لا يمكن حتى الأن توقع موعدها، بانتظار ما ستفضي إليه المشاروات والمفاوضات والحراك السياسي بين مختلف الأحزاب والتحالفات السياسية بعد انتهاء الأولمبياد الرياضي الذي أدخل فرنسا في هدنة سياسية كما وصفها الرئيس إيمانويل ماكرون تنتهي بانتهاء الأولمبياد.
حفل ارتجالي لتقليم الأظافر ..
في المعارك الانتخابية بشكل عام يُشهر الجميع مخالبه ليتمكن من انتزاع ما يمكن انتزاعه من حصص ومكاسب، وهذا ما جرى في الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2022 واستمر حتى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث تمكن حزب التجمع اليميني المتطرف بزعامة ماري لوبين من ترك أثارٍ لأظافره على جدران الأليزيه بعد أن نافس بشكل قريب جداً على كرسي الرئاسة الفرنسية، لكن رغم خسارته أمام حزب الرئيس ماكرون “النهضة”، إلا أنه اعتبر أن حصوله على هذه النسبة في الانتخابات وعلى هذا الدعم الشعبي هو انتصار للحزب في مسيرته نحو رئاسة فرنسا في المقبل من السنوات والدورات الانتخابية، ثم تابع اليمين المتطرف سعيه الحثيث لزيادة رصيده الشعبي والحزبي والبرلماني، فحقق في انتخابات البرلمان الأوربي فوزاً ساحقاً على منافسيه من باقي الأحزاب الفرنسية، وانتزع منهم غالبية المقاعد متفوقاً على حزب النهضة بزعامة الرئيس ماكرون وحزب فرنسا الأبية بزعامة جان لوك ميلانشون وغيرهما من أحزاب، نتائجٌ وقع صداها على الشارع الفرنسي والأحزاب الفرنسية بمجملها وقع الصاعقة، وتحسسوا جميعاً خطورة هيمنة اليمين المتطرف على إدارة البلاد والحياة السياسية فيه، ما دفع بالرئيس ماكرون إلى اتخاذ قرار بحل البرلمان الفرنسي (الجمعية الوطنية) والدعوة إلى انتخابات مبكرة لمواجهة تقدم اليمين المتطرف وعدم السماح له بالوصول إلى سدة الحكم في فرنسا، خطوةٌ قال عنها الجميع إنها خطيرة وغير مضمونة النتائج، وهذا ما أيدته بقوة نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التي جرت في 30 حزيران الماضي، والتي أفضت إلى حصول تحالف اليمين المتطرف بقيادة حزب التجمع الوطني على أعلى نسبة من الأصوات، بفارق كبير عن تحالف الجبهة الشعبية الجديدة الذي يضم أحزاب اليسار وجاء بالمرتبة الثانية، ثم تحالف “معاً” الذي يضم حزب النهضة برئاسة الرئيس ماكرون الذي جاء بالمرتبة الثالثة، وهو ما اعتبر بمثابة تقليم أظافر للرئيس وحزبه اللذين تدنت شعبيتهما إلى مستويات غير مسبوقة.
أمعنت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات في إثارة الخوف والهلع في نفوس من لا يريدون لليمين المتطرف أن يحكم البلاد، وهنا انطلق حفل تقليم أظافر اليمين المتطرف، حيث عقدت اتفاقيات بين تحالف الجبهة الشعبية الجديدة الذي يمثل اليسار وبين تحالف معاً الذي يضم حزب الرئيس ماكرون وأحزاب أخرى من الوسط، هذه الاتفاقيات أفضت إلى كبح جماح اليمين المتطرف في الجولة الثانية من الانتخابات االتي تمت في 7 تمور الماضي، وتمكن تحالف اليسار من قلب الطاولة على اليمين المتطرف واحتل المرتبة الأولى في نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، ليتراجع تحالف اليمين المتطرف إلى المرتبة الثالثة، ويتقدم تحالف الرئيس ماكرون وحزبه إلى المرتبة الثانية.
إلا أن سابقة عدم حصول أي من الأحزاب أو التحالفات على الأغلبية المطلقة في البرلمان التي تعطيه أحقية تسمية رئيس الحكومة وتشكيل الحكومة الجديدة، أدخل البلاد في متاهةٍ سياسية تفرض على جميع المكونات السياسية التعاطي مع الاستحقاقات البرلمانية والحكومية بطريقة جديدة وغير تقليدية إن توفرت الإرادة الحقيقية لتشكيل حكومة تحفظ البلاد من الدخول في سيناريوهات غير مضمونة النتائج أو غير محمودة العواقب.
هذه السابقة أتاحت للرئيس ماكرون فرصة استثنائية لتقليم أظافر اليسار المتطرف الذي يمثله حزب فرنسا المتمردة بزعامة ميلانشون الذي يحاول الضغط على الرئيس ماكرون عبر استثمار فوز تحالف اليسار “الجبهة الشعبية الجديدة” لفرض مرشحه لرئاسة الحكومة، إلا أن الرئيس ماكرون صرَّح بأنه لن يسمح للتطرف من اليمين أو اليسار أن يصل إلى الحكم في فرنسا، وما تم انجازه حتى الأن من الاتفاق على إعادة تسمية يائيل برون-بيفيه رئيسة للجمعية الوطنية الفرنسية وهي من المقربين للرئيس ماكرون، وتكليف ست رؤوساء لجان من أصل ثمانية في الجمعية الوطنية لأشخاص من معسكر الرئيس ماكرون، كل ذلك يشي بأن الرئيس ماكرون تمكن من استثمار الاختلافات والتناقضات الكبيرة بين أحزاب اليسارالتي تحالفت بصورة استثنائية وبما يسمى حكم الضرورة للوقوف في وجه التطرف اليميني، وتمكن ماكرون من استقطاب أحزاب الوسط من تحالف اليسار، واستبعاد الأحزاب اليسارية المتطرفة من أي تحالف محتمل لتشكيل الحكومة، كما أن ما سبق يشيرأيضاً إلى احتمالية تشكيل تحالف بين معسكر الرئيس ماكرون وأحزاب من الوسط في اليمين واليسار تسمح بتأمين أغلبية تعطي للمرشح الذي يختاره هذا التحالف الثقةَ المطلوبة في البرلمان، وبالتالي تشكيل حكومة إئتلافية تقود البلاد حتى موعد الانتخابات االرئاسية المقبلة عام 2027.
تقليم الأظافر للأحزاب الثلاثة الأقوى في الحياة السياسية الفرنسية قد يكون جاء بشكل عفوي وارتجالي، وقد يكون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد التقط الفرصة فاستخدم مقص اليسار ضد اليمين المتطرف، ثم مقص الوسط ضد اليسار المتطرف، وبذلك يستعيد الرئيس ماكرون وحزبه الإمساك بزمام الأمور إلى حد كبير، ويعمل الأن على التمهيد لدخول البلاد في مرحلة جديدة وشكل جديد من أشكال الحكم والإدارة الذي يعتمد على التحالفات والائتلاف والتوافق والتشاركية، وليس كما كان متعارفاً عليه ومعتمداً في السابق حيث كانت الأغلبية المطلقة في البرلمان هي التي تشكل الحكومة من لون واحد، وتكون باقي الأحزاب في البرلمان أحزاب معارضة على اختلاف أيديولوجياتها أو أجنداتها.
استحقاقات وتحديات كبيرة تنتظر فرنسا والرئيس ماكرون بعد الانتهاء من الأولمبياد الرياضي، وبالتالي انتهاء الهدنة التي منحها للأحزاب السياسية، قبل الانخراط بشكل عملي وكامل في معركة تشكيل الحكومة، معركةٌ تدخلها كل الأحزاب، الكبيرة والصغيرة، بأظافر مقلمة.