في المسألة اليهودية ..

الادارة
الوقت 24

“إن القومية الخرافية لليهودي هي قومية التاجر، إنسان المال بشكل عام”

كارل ماركس

 

تعرّض اليهود لعدّة قرون في أوروبا المسيحية إلى التحقير والإقصاء والتهجير أحيانا. حمّلتهم الكنيسة مسؤولية موت المسيح فكانوا ضحية عنصرية تآمرية، تعرّضوا لمجازر بشعة بشكل دوري بسبب تهم كيدية لا أساس لها من الصحة، فأُتّهموا بأنهم وراء انتشار وباء الطاعون الأسود الذي أودى بحياة ثلث سكان أوروبا، وأُتّهموا انهم وراء تفشي مرض الجُذام، وأُتّهموا أنهم يُسممون آبار شرب الماء، وأُتّهموا أنهم يقتلون أطفال المسيحيين ليُعِدّوا بدمائهم فطير عيد الفُصح اليهودي.

في بداية القرن الثالث عشر ميلادي أصبح إقصاء اليهود عقيدة كنسية رسمية، حيث أصدر البابا إنوسنت الثالث Innocent III أمرا للممالك المسيحية يقضي بضرورة فرض شارة مميزة على اليهود، وهي دائرة صفراء، يضعونها على ملابسهم تميزهم عن المسيحيين. أُجبر اليهود على العيش في أحياء معزولة ومغلقة، تحاط عادة بأسوار عالية، وتغلق أبوابها في المساء، ويمنع على القاطنين داخلها الخروج أيام الأحد وفي الأعياد المسيحية.

يُسمّى الحي اليهودي “بالجيتو”، وتعود التسمية إلى الحي اليهودي بمدينة البندقية الإيطالية الذي أقيم سنة 1516 ميلادي. طردهم الملك إدوارد الأول من انجلترا سنة 1290 ميلادي، ثم طُردوا من فرنسا سنة 1394 ومن النمسا سنة 1421 ومن مملكة نابولي سنة 1510 ومن دوقية ميلانو سنة 1597 ومن إسبانيا سنة 1492 ومن البرتغال سنة 1497. لكن لأسباب منفعية سيتراجع تدريجيا ملوك وأمراء أوروبا عن هذا القرار وسيسمحون لهم بالعودة إلى بلدانهم للقيام بوظائف محددة أهمها تأمين التجارة مع العالم الإسلامي في جنوب المتوسط الذي كان في قطيعة مع أوروبا المسيحية خاصة بعد الحروب الصليبية.

لم يكن لليهود نفس حقوق سكّان البلدان التي يعيشون فيها، فلا يحق لهم تملّك الأرض أو العقارات، ولا يسمح لهم بالإنتماء إلى طبقة الفرسان والمحاربين لأن الإنتماء للنخبة العسكرية كان يقتضي أداء قسم الولاء المسيحي. كانوا يصنفون كغرباء، شأنهم في ذلك شأن كل المهمّشين مثل المتسولين ومرضى الجذام والمومسات، وكانوا يُعَدُّون ملكية خاصة للملك أو الأمير أو الإمبراطور الحاكم في البلاد وهو المكلّف بحمايتهم، وهو كذلك من يحدد لهم قائمة المهن والحرف التي يستطيعون مزاولتها مقابل ان يدفعوا له الضرائب مباشرة. فسُمح لهم بمزاولة مهنة التجارة، وأن يُقرضوا الأموال بفوائض، في حين حرّمت الكنيسة الكاثولكية الربا على المسيحيين، لكن ذلك لم يمنع العديد من المسيحيين خاصة من طبقة النبلاء من توظيف التجار اليهود للقيام بعمليات ربوية بأموالهم وتحقيق أرباح طائلة على حساب الفلاحين والمزارعين الفقراء، ولنا في شخصية المرابي اليهودي شايْلُوك في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير الصورة النمطية لليهودي في المجتمع الإنجليزي خلال القرن السادس عشر.

كان أمراء وملوك أوروبا المسيحية يقومون بتوظيف اليهود في مصالح جمع الضرائب والرسوم، وعندما يواجهون تمرّدا من رعاياهم يوجهون غضبهم تجاه اليهود. تحوّل اليهودي في القرون الوسطى، بإعتباره الحلقة الأضعف إجتماعيا، إلى كبش الفداء النموذجي. يقدّم المفكر المصري عبد الوهاب المسيري أطروحة استلهمها من أعمال كارل ماركس وماكس فيبر حول المسألة اليهودية مفادها ان اليهود شكّلوا في المجتمع الإقطاعي الأوروبي جماعة وظيفية وسيطة، ويعرّف الجماعة الوظيفية بأنها جماعة يستوردها المجتمع من خارجه أو يجنّدها من داخله، لتقوم بوظائف لا يضطلع بها أعضاء المجتمع، ولهذه الجماعة الهامشية علاقة نفعية تعاقدية مع المجتمع، وليست جزءا من نسيجه. ويتم عادة تمييز أعضاء الجماعة الوظيفية عن طريق اللغة أو العقيدة أو الإنتماء الإثني، أو اللباس.

لكن مع نشأة نمط الإنتاج الرأسمالي وتراجع نمط الإنتاج الإقطاعي في أوروبا الغربية شهدت وضعية الجماعات اليهودية في المجتمعات الأوروبية تحولات عميقة، فمع ظهور البنوك سينتهي احتكار العنصر اليهودي لوظيفة المرابي بشكلها التقليدي لتصبح وظيفة رئيسية للبرجوازية الرأسمالية الصاعدة. في الأثناء ستتمكن عائلات يهودية غنية مثل عائلة روتشيلد من التأقلم مع النظام البنكي الجديد وتحقيق أرباحا طائلة، لتصبح هذه البرجوازية ذات الأصول اليهودية جزء لا يتجزّء من البرجوازية الرأسمالية الصاعدة. في حين ستفقد أغلبية الجماعات اليهودية مهامها الوظيفية وهو ما سيضطرّها إلى الهجرة نحو روسيا و بلدان أوروبا الشرقية أين مازال يهيمن نمط الإنتاج الإقطاعي.

بعد اندلاع الثورة الفرنسية في 14 من شهر تموز/ يوليو سنة 1789، اصدرت الجمعية الوطنية التأسيسية الفرنسية في شهر آب/أغسطس من نفس السنة إعلان حقوق الإنسان والمواطن، ودار جدل كبير حول منح حق المواطنة لليهود في فرنسا من عدمه، وكان عددهم يقدّر بحوالي أربعين ألف نسمة، وحسم الجدل بعد سنتين لصالح منح اليهود الفرنسيين حقوق المواطنة كأفراد وليس كجماعات، ونستحضر هنا الجملة الشهيرة لعضو الجمعية الوطنية الفرنسية كلارمون تونار Clermont Tonnerre الذي قال: ” لا حقوق لليهود كجماعة وكل الحقوق لليهود كأفراد”.

بدأ اليهـود في مغادرة الغيتو والإندماج في المجتمع الفرنسي، وتميزوا في عدة مجالات مثل الفنون و الصحافة والمال مما جلب لهم حقد وكراهية عدة فئات إجتماعية محافظة فقدت امتيازاتها بعد الثورة. سنة 1806 عند زيارة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت إلى مدينة سترازبورغ بمنطقة الألزاس حيث يتواجد نصف عدد يهود فرنسا، سيشتكي وجهاء وأعيان المدينة من سلوك بعض التجار اليهود الذين يمارسون الإقراض بالربا الفاحش، وسيخبرونه بأن عموم الجماعات اليهودية في المدينة يرفضون الإندماج في المجتمع الفرنسي. نابليون بونابرت الإمبراطور المتوج منذ سنتين فقط، سيعي أهمية القيام بإصلاح ديني يهودي، مثل الإصلاح الديني الكاثوليكي والبروتستانتي، في تشكيل هوية الأمة الفرنسية الجديدة. في شهر تموز/يوليو من سنة 1806 سيدعو لعقد إجتماع لأعيان يهود فرنسا  وسيوجّه لهم  إثني عشر سؤالا، هذه الأسئلة كانت بمثابة الرجة القوية التي هزت أسوار الجيتو المادي والروحي لليهود في فرنسا. سأستعرض هذه الأسئلة البونابرتية نظرا لأهميتها القصوى في تحديد مستقبل يهود فرنسا خصوصا وأوروبا عموما:

*السؤال الأول: هل يجوز شرعاً لليهودي أن يتزوّج أكثر من إمرأة؟

*السؤال الثاني : هل يسمح الشرع اليهودي بالطلاق؟

*السؤال الثالث:  هل يمكن ليهودية أن تتزوّج مسيحياً، ولمسيحية أن تتزوّج يهودياً؟

*السؤال الرابع: هل ينظر اليهود إلى الفرنسيين كأخوة لهم أم كأغيار؟

*السؤال الخامس: في كلا الحالتين، ماهي العلاقات التي تنص الشريعة اليهودية على وجوب إقامتها مع الفرنسيين الذين لا ينتمون إلى الدين اليهودي؟

*السؤال السادس: هل ينظر اليهود الذين ولدوا في فرنسا، والذين يعاملهم القانون كمواطنين فرنسيين إلى فرنسا كوطنهم؟ وهل عليهم واجب الدفاع عنها؟ وهل هم ملزمون باحترام  القوانين وبالخضوع لتراتيب القانون المدني؟

*السؤال السابع: من يعيّن الحاخامات؟

*السؤال الثامن: ماهي نوعية مهام الشرطة التي يمارسها الحاخامات على اليهود؟ وما هي خصائص السلطة القضائية التي يمارسونها عليهم؟

*السؤال التاسع: هل أشكال إختيار مهام الشرطة والسلطة القضائية هي من الشرائع اليهودية أم أنها تكرّست بفعل العادات والتقاليد؟

*السؤال العاشر: هل تحرّم الشريعة اليهودية ممارسة مهن معينة؟

*السؤال الحادي عشر: هل تحرّم الشريعة على اليهود ممارسة الربا إزاء إخوتهم من اليهود؟

*السؤال الثاني عشر: هل تحظر الشريعة على اليهود ممارسة الربا إزاء الأغيار؟

استمر الجدل بين أعيان يهود فرنسا لعدة أشهر وظهرت خلافات عميقة بين الحاخامات وبعض اليهود الإصلاحيين، وأبلغوا بونابرت انهم غير مؤهلين لحسم بعض القضايا التي تتعلق بالعقيدة اليهودية، وأنه يتوجب الدعوة لإنعقاد السنهدرين Sanhedrin وهي اسم الهيئة القضائية العليا لليهود قديما، وتعادل المجمع المسكوني عند الكاثولكيك. في العاشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول سنة 1806، وبأمر من نابليون بونابرت سيتشكل السنهدرين الأكبر وسيضم 71 ممثلا ليهود الإمبراطورية الفرنسية من أعيان وحاخامات، وسيفتتح أشغاله بمدينة باريس في التاسع من شهر فيفري/شباط سنة 1807. حُددت مهام السنهدرين أساسا في الإجابة عن الإثني عشر سؤالا التي طرحها قبل أشهر بونابرت على أعيان وحاخامات اليهود، وستكون الإجابات عن هذه الأسئلة في تماه مطلق مع البرنامج البونابرتي للإدماج القصري لليهود في المجتمع الفرنسي. سيقرر السنهدرين إلغاء تعدد الزوجات في الشريعة اليهودية، وسيُبيح شرعية زواج اليهودية بالمسيحي، وسيصادق على منع الربا في المعاملات بين اليهود وبقية المواطنين، وسيعترف ان اليهود هم جزء لا يتجزّأ من الأمة الفرنسية وان بقية الفرنسيين غير اليهود هم إخوة لهم في الوطن، وسيقرّ انه من واجب يهود فرنسا الدفاع عن وطنهم والإمتثال للقوانين المدنية للإمبراطورية.

كان للإصلاحات البونابرتية أثرا كبيرا في كافة أنحاء أوروبا، حيث ستقتفي بقية الأقطار أثر فرنسا، وستمنح حق المواطنة لليهود المقيمين على أراضيها وسيكون القرن التاسع عشر هو قرن تحرر اليهود في أوروبا الغربية. لكن القرن التاسع عشر سيكون كذلك قرن ظهور شكل جديد من أشكال معاداة اليهود، وهو ما أصطلح على تسميته بمعاداة السامية. سنقف قليلا عند هذا المصطلح الإشكالي، لأنه مصطلح له جذور دينية متأت من الأنترولوجيا التوراتية التي قسمت البشرية إلى ثلاثة أجناس ينحدرون من أبناء نوح الثلاثة الذين نجوا معه في السفينة بعد الطوفان، وعمّروا الأرض وهذه الأجناس هي:

أولا: الساميون، نسبة إلى سام بن نوح، وهم الشعوب التي سكنت شبه الجزيرة العربية و الشام وبلاد الرافدين، وتجدر الإشارة ان النص التوراتي أقصى الكنعانيين من سلالة سام وضمّهم إلى سلالة شقيقه حام للانتقام منهم لأنهم كانوا في صراع دائم مع العبرانيين.

ثانيا: الحاميون، وينسبون إلى حام بن نوح، وهم الشعوب الإفريقية، والمصريين والأمازيغ والكنعانيين.

ثالثا: اليافثيون، نسبة إلى يافث بن نوح وهم الشعوب الهندوأوروبية، من هنود وفرس، ويونان، وأتراك، وسلاف.  طبعا هذا التقسيم  هو تقسيم عرقي يقوم أساسا على اللون، وهو سردية توراتية لا يوجد لها أي سند علمي تاريخي أو أركيولوجي أو انتروبولوجي. كان الصحفي الألماني وليام مار أول من استخدم مصطلح معاداة السامية سنة 1879 وذلك لتوصيف الحركة المعادية لليهود. سنرى لاحقا كيف تحول هذا المصطلح إلى سلاح إيديولوجي تستغله الحركة الصهيونية وستصبح معاداة السامية هي فقط معاداة اليهود دون غيرهم من بقية عناصر الجنس السامي بمن فيهم العرب.

نستنتج ان مفهوم معاداة السامية هو مفهوم أوروبي حل محل مفهوم كراهية اليهود في القرون الوسطى. وان هذه الإيديولجيا الجوهرانية العنصرية تجاه اليهود ولدت في أوروبا في القرن التاسع عشر عندما زعمت البيولوجيا خطأ ان البشرية مقسمة إلى أعراق متمايزة، وأنكرت وحدة الجنس البشري. كان المعادون لليهود في القرون الوسطى من المسيحيين يعتبرون اليهودي شرير لأنه يعتنق الديانة اليهودية فبمجرّد ان يتخلّى اليهودي عن يهوديته ويتحول إلى المسيحية يصبح شخص خيرا. أما المعادون للسامية بداية من القرن التاسع عشر فهم يعادون اليهود لأنهم يعتبرونهم عرقا له مواصفات فزيولوجية معينة وليسوا فقط جماعة دينية، لذلك فإنهم يعتبرون ان اليهودي يحمل داخله جوهرا شريرا يرثه كما يرث جيناته وبالتالي حتى وإن تخلّى عن يهوديته فإنه سيظل يهوديا.

خلال القرن التاسع عشر سينتقل مركز معاداة السامية وكراهية اليهود نحو شرق أوروبا وروسيا حيث توجد جماعات يهودية كبيرة، تمركزت أساسا على أطراف الإمبراطورية الروسية في أوكرانيا وبلاروسيا وليتوانيا وبولندا لأن الكنيسة الارذوكسية كانت ترفض إقامة اليهود في الداخل الروسي. معاداة اليهود في روسيا القيصرية لم تكن ظاهرة منتشرة فقط عند عامة الناس بل كانت عقيدة مركزية في الكنيسة الأرثوذكسية، وقاسم مشترك في سياسة كل القياصرة الروس، فبطرس الأكبر، حين سُئل عن قبول اليهود في الإمبراطورية، قال: «أفضّل أن أرى في ما بيننا أممًا تعتنق المحمدية أي الإسلام والوثنية بدلًا من رؤية اليهود. فإنهم محتالون وغشاشون. وأنا أسعى للقضاء على الشر وليس مضاعفته». اليهود في روسيا القيصرية كانوا صنفين، يهودي مفيد ويهودي غير مفيد، سنة 1821 سيتعرضون إلى مذبحة في مدينة أوديسا الأوكرانية ذهب ضحيتها المئات وهي أول مذبحة أطلق عليها اسم البوغروم وهي كلمة روسية تعني النهب والتدمير. سنة 1825 سيأمر قيصر روسيا نيكولا الأول بتجنيد جميع الذكور اليهود ابتداء من سن اثني عشرة عاما في الجيش الإمبراطوري الروسي. كان الجنود اليهود بمثابة وقود مدافع في الصفوف الأمامية في المعارك ولا يحق لهم الترقية في الرتب العسكرية.

الكتّاب والمبدعون هم نبض قلوب شعوبهم، الكاتب الروسي الكبير  دوستويفسكي كتب نصا حول المسألة اليهودية في بلاده، وهذا النص يعبّر عن المزاج العام الروسي تجاه اليهود في ذلك الوقت، يقول صاحب كتاب الجريمة والعقاب: إنه من الصعب جداً معرفة القرون الأربعين التي يتشكل منها التاريخ اليهودي، لكنني بالمقابل أعرف شيئاً واحداً على الأقل، أعرف أنه لا يوجد شعب في العالم كله يتشكّى دونما انقطاع أبداً ـ في كل دقيقة وثانية ـ من المصير الذي ألمّ به كما يفعل اليهود. إنهم يندبون حظهم مع كل خطوة، مع كل كلمة، يتشكّون من عذاباتهم، من احتقار الآخرين لهم، ومن آلامهم التي لا تنتهي. يتشكّون من كل شيء لدرجة تنسى معها أنهم هم الذين يسيطرون على أوروبا، وأنهم هم المتحكّمون بأسواق البورصة هناك. ويضيف:  ليس عند الإنسان الروسي أي تحامل أو ظن مسبق فيما يتعلق بمسألة توسيع الحريات لليهود… أنا أؤكد هذا، وأؤكد بالمقابل أن التحامل والظن المسبق قابع في طرف اليهودي أكثر بكثير مما هو في طرف الروسي، وإذا لم يقم بعد هذا الصرح من الأخوة الروسية اليهودية، فإن ذنب الروسي في هذه النقطة لا يقارن بذنب اليهودي.”هذه الكلمات لدوستويفسكي تظهر لنا الهوة السحيقة بين الروح السلافية الروسية وبين الأقلية اليهودية.

سيعيش اليهود في روسيا القيصرية أحلك أيامهم بعد اتهامهم خطأ انهم كانوا وراء اغتيال القيصر ألكسندر الثاني في 13 من شهر مارس/آذار سنة 1881، حيث تواصلت المذابح التي استهدفت الجماعات اليهودية في روسيا حوالي ثلاث سنوات اهمها مذبحة وارسو. هذه المجازر التي ارتكبت في حق اليهود الروس في نهاية القرن التاسع عشر دفعت عشرات الآلاف من يهود روسيا و أوروبا الشرقية إلى اللجوء إلى دول أوروبا الغربية منها، ألمانيا وسويسرا وفرنسا و إنجلترا، والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي سيجعل من المسألة اليهودية مسألة مركزية في سياسة العواصم الغربية. هذه المسألة المعقدة والشائكة التي باتت تؤرّق كل الدول الغربية سيُطرح لحلها ثلاثة حلول رئيسية:

*الحل الأول، كان حل التيار اليهودي الأرذوكسي، الذين كان يريد الإبقاء على اليهود داخل الغيتو ويرفض كل  أشكال الإندماج. كان حاخامات هذا التيار الديني يدعون إلى انتظار عودة الماشيح اليهودي اي المسيح اليهودي الذي سيخلّص الشعب اليهودي من آلامه ويعيده من الشتات إلى الأرض التاريخية لبني إسرائيل اي فلسطين. لكن العودة إلى فلسطين عند هذا التيار الأرثوذكسي ليست أمرا يحدث بمشيئة البشر، بل على المؤمن بالعقيدة اليهودية ان ينتظر حتى يأذن الإله بالعودة إلى أرض الميعاد بقيادة الماشيح، ورد في التوراة في سِفر الكُوتْبُوت ما يلي : “لا تعودوا ولا تحاولوا ان ترغموا الإله”. كانت اليهودية الأرثوذكسية الحاخامية تعتبر ان العودة إلى فلسطين هرطقة وجرم لا يغتفر، وتطلق عليه بالعبرية “دحيكات هاكتس” ، أي الضغط على الإله لإجبار “الماشيح على المجيء”.

أمّا الحلّ الثاني للمسألة اليهودية، فكان حل الإندماج في المجتمعات الأوروبية على قاعدة التمتع بكل حقوق المواطنة ورأينا ان حل الإندماج بدأ أساسا مع الثورة الفرنسية والإصلاح البونابرتي، لكن تجدر الإشارة إلى انه بداية من منتصف القرن الثامن عشر ستظهر حركة تنويرية يهودية مدافعة عن فكرة الإندماج تسمّى حركة الهسكالا أي الأنوار Haskalah، وقد رفعت هذه الحركة شعار: “كن يهوديا في بيتك وإنسانا خارجه”، ومن أهم رموزها الفيلسوف اليهودي الألماني Moise Mendelssohn موسى مندلسون، وهو أول من ترجم أسفار موسى الخمسة إلى الألمانية، وكانت هذه الحركة جزءا من حركة الأنوار الأوروبية التي جعلت من العقل المقياس الأول والأخير للحقيقة ومرشد الإنسان لتحقيق ذاته.

أرادت الهسكالا تحرير اليهود من الجيتو المادي والعقائدي الذي فرضته عليهم اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية، وحثّت اليهود على التخلّي عن قشرتهم الدينية الخرافية لإكتشاف جوهرهم الإنساني والإندماج في الثقافات والمجتمعات التي يعيشون فيها، ودعتهم إلى تدريس العلوم والآداب الحديثة الغربية لأبنائهم  عوض تدريسهم تعاليم التلمود. واعتبر رواد حركة الهسكالا الإصلاحية ان اليهودية ليست جنسية، وإنما هي  فقط عقيدة دينية، وأن الثابت الوحيد في الكتاب المقدَّس هو القانون الأخلاقي لا غير، أما بقية الشرائع والطقوس التي تتعارض مع متطلبات العصر فيجب تجاوزها، ودعوا إلى المساواة بين النساء والرجال في التعليم وإباحة الإختلاط في العبادات، والتخلّي عن الترانيم العبرية والأرامية القديمة في الصلاة و إدخال الموسيقى للمعابد، وأهم ما جاء في أفكارهم الإصلاحية هو الدعوة إلى التسامح مع الأديان الأخرى والكف عن الإعتقاد بأن اليهود هم شعب الله المختار، والتخلّي عن فكرة إعادة بناء الهيكل بالقدس واعتبار ان كل معبد يهودي في أي مكان في العالم هو الهيكل.

هيمن على هذا التيار الإندماجي في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين توجها ثوريا اشتراكيا جلب عدد كبير من اليهود الفقراء خاصة في روسيا وأوروبا الوسطى والشرقية، وبرز في أوروبا مفكّرون من أصول يهودية ذو توجهات اشتراكية ثورية، على سبيل الذكر لا الحصر سنجد في ألمانيا روزا لوكسمبورغ، وفي فرنسا سنجد ليون بلوم Léon Blum وفي روسيا سنجد ليون تروتسكي، وسيتشكل الاتحاد العام للعمال اليهود في روسيا وبولندا وليتوانيا، المعروف بالبوند، والبوند كلمة يديشية تعني الإتحاد، وهو أهم التنظيمات الاشتراكية اليهودية في شرق أوربا.

كل هؤلاء الثوريين كانوا يعتقدون ان المسألة اليهودية ستحسم داخل المسألة الإجتماعية في ظل نظام اشتراكي يتساوى فيه جميع المواطنين. لكن حذاري لا يمكن بأي حال من الأحوال إختزال الإضافة النوعية لهؤلاء الزعماء والمفكرين في جذورهم اليهودية. البوصلة الفكرية لهذا التيار الإشتراكي اليساري حول المسألة اليهودية كانت نصا عميقا للفيلسوف الألماني كارل ماركس، حمل عنوان “حول المسألة اليهودية” وصدر هذا النص في الحولية الألمانية الفرنسية في باريس سنة 1844، وكان ردا على نص للفيلسوف الهيجلي اليساري “برينو باور” Bruno Bauer حمل عنوان “المسألة اليهودية”: يستهل باور نصّه بأسئلة نقدية لاذعة ليهود ألمانيا فيقول: يطالب اليهود الألمان بالتحرر، فبأي تحرر يطالبون؟! التحرر كمواطنين (أي) التحرر السياسي… ثم يجيبهم: ليس ثمة من هو متحرر سياسيا في ألمانيا. نحن أنفسنا لسنا أحرارا، فكيف نستطيع تحريركم؟ انتم اليهود أنانيون، حين تطالبون لأنفسكم بإنعتاق خاص، عليكم أن تعملوا من أجل إنعتاق ألمانيا السياسي، وكبشر من أجل الانعتاق البشري. وذهب باور في أطروحته إلى القول بأن الإنسان كي يتحرر عليه أن يضحّي بامتياز العقيدة وأن تحرر اليهود يمر حتما عبر تحررهم من الديانة اليهودية. يقول باور: “ستُحل المسألة اليهودية عندما يكف اليهودي عن أن يكون يهوديًا، حين لا يدع شعائره تعيقه عن أداء واجباته إزاء الدولة وشركائه في المواطنة، أي يذهب مثلا يوم السبت إلى مجلس نواب الشعب ويشارك في المداولات العامة، يجب إلغاء كل الإمتيازات الدينية بشكل عام بما في ذلك أيضا إحتكار الكنيسة لإمتيازات خاصة، وإذا كان البعض أو العديدون أو الغالبية العظمى لا تزال تعتقد ان عليها أن تؤدي واجبات دينية، فينبغي ان يترك ذلك لهم كمسألة شخصية بحتة.”

رفض كارل ماركس موقف باور الإقصائي للدين كعقيدة فردية وبلور موقفا علمانيا من الدين أكثر إعتدالا. اعتبر عكس باور ان التحرر السياسي هو تحرر الدولة من الدين وليس تحرر الفرد من الدين، وأعطي كارل ماركس الأنظمة في أمريكا الشمالية كمثال على حيادية الدولة إزاء العقائد الدينية، رغم أن الممارسة الدينية متجذّرة بشكل كبير في المجتمع الأمريكي، الفرد متدين والدولة تقع على نفس المسافة من كل الديانات. فشرط التحرر السياسي هو تحرر الدولة من الدين وليس تحرر الفرد من الدين.

كارل ماركس سيتجاوز باور ويعتبر ان التحرر السياسي لليهود لا يكفي لحل المسألة اليهودية بل يجب أن يتبعه التحرر الإنساني لليهود. ماركس سيدعونا إلى ان لا نبحث عن اليهودي في دينه بل عن سر الدين في اليهودي الواقعي. و اليهودي الواقعي عند كارل ماركس ليس يهودي يوم السبت بل يهودي بقية أيام الأسبوع الذي حدد له المجتمع البرجوازي مهاما وظيفية بعينها، وهي وظيفة التاجر، و إنسان المال بشكل عام. حسب ماركس اليهودية الوظيفية في المجتمع الرأسمالي ليست اليهودية الدينية، بل هي وظيفة اجتماعية فرضتها البورجوازية على الفرد اليهودي. ولذلك فان التحرر من اليهودية الوظيفية يعني التحرر من رأسمالية المال كمقياس لإنسانية الإنسان، والتي ينتج عنها اغتراب اليهودي عن ذاته كإنسان، ولن يتم ذلك إلا بالقضاء على رأس المال المالي. وهذا ما قصده كارل ماركس بقوله :إن التحرر الإجتماعي لليهودي هو تحرر المجتمع من اليهودية. أي التحرر من اليهودية كمهام وظيفية وليس من اليهودية كدين.

يقول ماركس أن المسيحية كانت الفكرة النبيلة لليهودية، وكأنه يستحضر صورة المسيح عندما قام بطرد التجار الذين حوّلوا المعبد إلى سوق وقوله: “لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ معا “، لكن في المجتمع البرجوازي حسب كارل ماركس ستذوب هذه الروح المسيحية في اليهودية الماركنتلية وستفقد سموّها. ينتهي كارل ماركس إلى القول ان إله إسرائيل، أي إله اليهودية الماركنتلية، هو المال وهذا الإله الغيور جدا لا يقبل أن يُشرَك به، وأن القومية الخرافية لليهودي هي قومية التاجر. سيُتهم ماركس بعد نصه هذا بمعاداة السامية رغم أصوله اليهودية.

مُثل كارل ماركس وأحلام الثوريين في الأخوّة الإنسانية والعدالة الإجتماعية ستصطدم بتصاعد النزعات القومية في أوروبا وتراجع النزعة الاممية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وسيكون من نتائج ذلك ظهور تيار قومي شوفيني داخل الجماعات اليهودية وهذا التيار الأقلّي هو الذي سيطرح الحل الثالث للمسألة اليهودية وهو الحل الصهيوني، الذي يقضي بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.

فما هي الأسس العقائدية للصهيونية؟ وماهي التيارات الفكرية والسياسية التي تشقها؟ وماهي العوامل الجيواستراتجية التي ساهمت في تمكن الحركة الصهيونية من إنجاز مشروعها وإقامة دولة الإحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين سنة 1948؟

 

(يتبع في الجزء الثاني )…

 

*نجيب البكوشي باحث وكاتب تونسي

 

أهم المراجع:

*موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبد الوهاب المسيري، الناشر، دار الشروق سنة 2004.

*كارل ماركس: حول المسألة اليهودية

Karl Marx sur la Question juive, présentation et commentaires de Daniel Bensaïd, Éditeur : La fabrique éditions; 1er édition (29 mars 2006).

*إختراع الشعب اليهودي، شلومو ساند، ترجمة سعيد عيّاش، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 2011.

* المسألة اليهودية، مقال لفيدور دوستويفسكي، نُشر لأول مرة في مجلة ” يوميات كاتب” عدد آذار/مارس 1877، وهي مجلة كان يُصدرها دوستويفسكي نفسه، ترجم المقال عن الروسية حسن سامي اليوسف.

 

شارك هذا المقال
عناوين