تعرضت في نص سابق حمل عنوان، الصهيونية النشأة والتأسيس، إلى مفهوم الصهيونية والأصول العقائدية لنشأتها، وأوضحت بأن هذا المشروع الذي هدف إلى توطين اليهود بأرض فلسطين، تعود جذوره إلى عقائد الكنيسة البروتستانتية منذ القرن السادس عشر ميلادي، وأن منبت الفكرة الصهيونية لم يكن الجماعات اليهودية بل كان الجماعات البروتستانتية. وشرحت كيف أن فكرة الصهيونية ارتبطت عضويا بفكرة معاداة السامية، وكيف أن توطين اليهود خارج أوروبا كان الهدف المشترك للمعادين للسامية من المسيحيين ولرواد الفكر الصهيوني من الجماعات اليهودية معا. وبيّنت كيف أن فكرة الصهيونية لم تنتقل إلى النخب اليهودية إلاّ في نهاية القرن التاسع عشر مع الكاتب والصحفي النمساوي/المجري تيودور هرتزل صاحب كتاب دولة اليهود، الذي سيُنظّم المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية في شهر آب/ أغسطس سنة 1897. ووضّحت أن هوية الأرض التي سيقام عليها المشروع الصهيوني ظلّت غامضة طيلة المدة التي ترأس فيها تيودور هرتزل المنظمة الصهيونية العالمية، فإلى جانب فلسطين طُرحت الأرجنتين وأوغندا والعريش وشبه جزيرة سيناء بمصر كأوطان محتملة لإقامة الكيان الصهيوني، ولم يقع الحسم النهائي لمصلحة مشروع التوطين بفلسطين إلا خلال المؤتمر السابع للمنظمة الصهيونية العالمية الذي سيعقد في آب/أغسطس سنة 1905 في مدينة بازل السويسرية، وهو أوّل مؤتمر يعقد بعد موت مؤسس المشروع الصهيوني تيودور هرتزل في الثالث من شهر تموز/يوليو سنة 1904.
يمكننا تقسيم الاستيطان الصهيوني في فلسطين إلى ثلاث مراحل رئيسية:
*المرحلة الأولى وهي مرحلة السيادة العثمانية على فلسطين، وتبدأ من انعقاد مؤتمر لندن سنة 1840، بعد هزيمة محمد علي باشا، وتمتدّ إلى حدود الإعلان عن وعد بلفور سنة 1917.
*المرحلة الثانية وهي مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين
* أما المرحلة الثالثة والأخيرة فتمتد من تاريخ النكبة وقيام دولة الكيان الصهيوني سنة 1948 إلى اليوم.
في هذا النص سأتناول بالدرس المرحلة الأولى من مراحل الاستيطان الصهيوني وهي مرحلة السيادة العثمانية على فلسطين.
كانت فلسطين خلال هذه المرحلة تحت سيادة الباب العالي، وتتبع إداريا إلى منطقة الشام. نجد في الشمال مُتَصَرِفيّة عكا (المُتصرِفيّة هي تقسيم إِدَارِي في الإِمبِراطورِيَّة العثمانية يُقابِل الإِقليم اليوم) وتشمل حيفا، وطبريا، وصفد. ونجد كذلك متصرفية نابلس وتشمل جنين طولكرم. وكل هذه المناطق في شمال فلسطين تعود بالنظر إلى ولاية بيروت. أما في الجنوب فنجد متصرفية القدس وهي مستقلة عن ولاية بيروت وتخضع مباشرة للحكومة المركزية في إسطنبول منذ سنة 1887 وتضم القدس، ويافا، وغزة، و الخليل، وبئر السبع.
بدأت هذه المرحلة الاستيطانية بمبادرات فردية لبعض الأثرياء من المسيحيين البروتستانت، الذين ساندوا مشروع توطين يهود العالم في فلسطين لأسباب عقائدية مسيحية، فالبنسبة إليهم، عودة اليهود إلى أرض فلسطين هي شرط ضروري لعودة المسيح من جديد. ومن أبرز رواد هذا التيار الإنجيلي-الصهيوني، نذكر اللورد الإنجليزي شافتسبري Shaftesbury المولود سنة 1801 والمتوفى سنة 1885، وهو من أبرز الشخصيات البريطانية في القرن التاسع عشر التي دعت إلى توطين اليهود بفلسطين لتحقيق النبوءات التوراتية، وتعود إليه مقولة فلسطين هي، “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، التي تحولت إلى الشعار المركزي للحركة الصهيونية.
هذه الفكرة الصهيونية سيعتنقها في ما بعد عدة أثرياء يهود، وسيسمونها بالهجرة الأولى أو العليا الأولى إلى أرض الميعاد، ونذكر منهم السير موشي أو موسى مونتِفيوري Moïse Montefiore، وهو ثري يهودي بريطاني ولد سنة 1784 لأسرة ذات أصول إيطالية وتوفي سنة 1885، ارتبط بعائلة الثري روتشيلد بالمصاهرة، وتولّى منصب عمدة لندن، وهو أول يهودي بريطاني حصل على لقب” سير”. زار مونتفيوري فلسطين سبع مرات، واقترح على محمد علي باشا حاكم مصر توطين اليهود بفلسطين مقابل تأسيس بنوك للإستثمار في المناطق الخاضعة لسلطة محمد علي المتصارع مع الباب العالي. بعد خروج محمد علي من فلسطين بضغط من العواصم الغربية، تقرّب مونتفيوري من الباب العالي وتحصّل سنة 1855 على فرمان (قرار) من السلطان العثماني عبد المجيد الأول يسمح له بشراء أول قطعة أرض في القدس، أقام عليها أول حي سكني، وتمكّن من تهجير عدد من يهود اليمن إلى القدس وأسكنهم في حي أسماه، “حي موشيه اليمني”، كما تملّك أرضًا غربي القدس سنة 1859، وأقام مستوطنة باسم «موتسا تحتيت» سنة 1864.
الشخصية اليهودية الثانية التي كانت من طلائع المشروع الصهيوني هي الثري موريس دي هيرش عاش بين سنتي (1831 و 1896)، ولد لعائلة يهودية ألمانية وتمكن من جمع ثروات هائلة من خلال استثماره في بناء خطوط السكك الحديدية في تركيا و النمسا ودول البلقان. أسس جمعية الإستيطان اليهودي، ركّز مشروعه الإستيطاني في البداية على توطين اليهود في الأرجنتين و البرازيل والولايات المتحدة الأمريكية وكندا أين أسس عدة مستوطنات زراعية، وبعد وفاته وجهت مؤسساته الإستيطانية مجهودها للإستيطان أساسا بفلسطين.
لكن يبقى الإسم الأهم من الأثرياء اليهود في أوروبا الذي ساهم ماديا وسياسيا في مشروع توطين اليهود في فلسطين هو اسم عائلة روتشيلد. حتى أن بعض المؤرخين يطلقون على هذه المرحلة من الإستيطان بمرحلة الإستيطان الروتشيلدي. فما هو أصل هذه العائلة التي نُسجت حول نفوذها في العالم عدة أساطير وما هو دورها في مشروع الإستيطان بفلسطين؟
تعود نشأة عائلة روتشيلد إلى القرن السادس عشر ميلادي في الحي اليهودي بمدينة فرانكفورت الألمانية، وعَرفت هذه العائلة مجدها خاصة مع مائير أمشيل روتشيلد عاش بين سنتي (1743- 1812) وجمع ثروة طائلة من تجارة العملة. بعد وفاته واصل أبناءه الخمسة القيام بأعمالهم المصرفية والتجارية، وتوزّعوا على خمس مدن أوروبية كبرى: الإبن البكر آشر استقر في مدينة فرانكفورت بألمانيا، وابنه الثاني ناتان في مدينة لندن بأنجلترا، وابنه الثالث سالومون في مدينة فيينا بالنمسا، وابنه الرابع كارل في مدينة نابولي بإيطاليا، وابنه الخامس جيمس في مدينة باريس بفرنسا.
في البداية توجست كل فروع عائلة روتشيلد في أوروبا من مشروع إقامة وطن لليهود بفلسطين. ولكن مع تفاقم أزمة هجرة يهود روسيا وشرق أوروبا نحو العواصم الغربية أصبحت عائلة روتشيلد وخاصة فرعيها الفرنسي والإنجليزي من أكبر الداعمين والممولين لهذا المشروع لتوطين هؤلاء المهاجرين الفقراء خارج أوروبا.
إدموند دي روتشيلد الذي عاش بين سنتي 1845 و1934 هو أحد الأسماء البارزة للفرع الفرنسي لعائلة روتشيلد، والذي عامل تيودور هرتزل بازدراء عند لقائه به لأول مرة في باريس سنة 1896 ووصفه بالمتسوّل، سيتحول إلى أكبر الداعمين للإستيطان في فلسطين حتّى انه يلقّب بأب اليوشوف أي أب المستوطنين. استجاب إدموند دي روتشيلد لدعوة جمعية أحباء صهيون لمساعدة المستوطنين الجدد القادمين من روسيا وشرق أوروبا، فقدم دعما ماليا سخيا لمستوطنة “ريشون لتسيون” التي تأسست سنة 1882 على أراضي قرية “عيون قارة” الفلسطينية. تجدر الإشارة أن مستوطنة “ريشون لتسيون” قد اشتراها يهود روس في مزاد علني عرضته السلطة المحلية العثمانية بعد أن عَجَز سكانها العرب عن تسديد الضرائب المتخلدة بذمتهم لدى الدولة العثمانية. وموّل روتشيلد مستوطنة زخرون يعقوب جنوب جبل الكرمل وهي مستوطنة ليهود هاجروا من رومانيا تأسست سنة 1882 وكانت تحمل اسم “زمّارين” وهو اسم لقرية عربية تقع بجوارها، لكن البارون ادموند روتشيلد سيغير اسمها إلى “زخرون يعقوب” نسبة إلى والده جيمس يعقوب روتشيلد. على امتداد عقود من الزمن موّل روتشيلد عشرات المستوطنات الزراعية، حملت معظمها أسماء لأفراد عائلته، وكانت مرتبطة عضويا بالنشاط التجاري لعائلة روتشيلد في فرنسا خصوصا وأوربا عموما، وكان سبّاقا في تأسيس عدة صناعات زراعية في المستوطنات أهمها على الإطلاق صناعة النبيذ. وساهم في تأسيس أول محطة لتوليد الطاقة لتزويد المستوطنات بالكهرباء، وأسهم في مجال التربية والتعليم حيث ساعد حاييم ويزمان في انشاء الجامعة العبرية في القدس سنة 1925.
يقول دافيد بن غوريون مؤسس دولة الكيان الصهيوني متحدثا عن البارون روتشيلد : “أشك ان كنا سنجد في جميع أجيال الشعب اليهودي على مدار ألفي عام، شخص رائع كهذا الذي بنى الإستيطان اليهودي في وطننا المتجدد”.
واجهت موجة الهجرة الأولى إلى فلسطين الممتدة بين سنتي 1882 و 1903، والتي هاجر خلالها بين 20 و30 ألف يهودي عدة عراقيل من أهمها انتشار الأوبئة، وجهل المهاجرين بالعمل الزراعي، والإعتماد أساسا على العمال العرب. لكن مع بداية تسعينيات القرن التاسع عشر ستُستبدل هذه الهجرة العشوائية والغير منظمة بالهجرة الثانية، والتي ستأخذ ملامح مشروع استيطاني استعماري منظّم له شبكة من المؤسسات المالية والسياسية والثقافية، وتعمل بتنسيق تام في ما بينها تحت إشراف المنظمة الصهيونية العالمية التي أسسها تيودور هرتزل سنة 1897. مباشرة بعد أن حُسمت هوية الأرض التي سيقام عليها المشروع الصهيوني في بداية القرن العشرين ، وتم الإختيار على أرض فلسطين، بعثت المنظمة الصهيونية العالمية عدة هيئات لتسريع الإستيطان، نذكر من أهمها:
* أولا، الوكالة اليهودية أو جمعية الاستعمار اليهودي: وهي الجهاز المشرف على حركة الإستعمار الإستيطاني، وتعود نشأتها إلى المؤتمر الصهيوني الأول، أقيمت برأسمال قدره مليونين فرنك سويسري، موّلها البارونينين دي هيرش و روتشيلد. أسست الوكالة عدة مدارس زراعية وصناعية في فلسطين لتأهيل المستوطنين الجدد، وموّلت تشييد عدة مستعمرات زراعية، وأصبحت في بضع سنوات أكبر شركة مالكة للأراضي بفلسطين فسيطرت على حوالي 151 الف دونم اي حوالي 15000 هكتار.
* ثانيا، جمعية التحالف اليهودي العالمي
Alliance Israélite Universelle
وهي جمعية يهودية فرنسية أسسها سنة 1860 وزير العدل الفرنسي وقتئذ أدولف كريميو Adolphe Crémieux، أَنشأت هذه الجمعية عدة مدارس في القدس وحيـفا ويافا وصـفد وطبرية وموّلها الثريين هيرش وإدموند دي روتشيلد.
* ثالثا، أحباء صهيون، أو حوفيفي تسيون بالعبرية : وهي مجموعة من الجمعيات الصهيونية نشأت في روسيا و أوروبا الشرقية ابتداء من سنة 1881، ومن أهم رموزها ليون پينسكر Léon Pinsker ، صاحب كتاب “التحرر الذاتي”. كان هدفها محاربة اندماج اليهود في بلدانهم الأصلية وتحريضهم على الهجرة إلى فلسطين.
* رابعا، حركة البيلو: وهي مختصر للكلمات العبرية، ” تعالوا نرحل لبيت يعقوب”، وهي حركة شبابية تأسست في روسيا سنة 1882، وكان هدفها تنظيم هجرة الشباب اليهود الروس إلى فلسطين. تمكنت هذه الحركة الإستيطانية من الحصول على إذن خاص من الدولة العثمانية لممارسة نشاطها الإستيطاني بكل حرية في فلسطين.
أمّا أهم الأذرع المالية لتمويل المشروع الصهيوني فكانت:
* أولا، الصندوق القومي اليهودي Jewish National Fund : وهو مصرف تأسس سنة 1901 وكان الهدف منه تمويل المشاريع الإستيطانية، سُجّل في لندن تحت اسم كارن كايمت Keren Kayemet، وتمكن منذ تأسيسه إلى حدود سنة 1908 من امتلاك حوالي 87 ألف دونم أي حوالي 8700 هكتار من الأراضي في يافا والجليل وسهل حطين ووادي الأردن. كان هذا المصرف يؤجر الأراضي لليهود فقط ويمنع منعا باتا تأجيرها لغير اليهود.
*وثانيا، البنك الإنجليزي الفلسطيني The Anglo Palestine Bank ، تأسس في لندن سنة 1903، ومقره المركزي في يافا، وله فروع في القدس وصفد وطبريا وبيروت. قدم هذا البنك قروضا ميسرة للحكومة العثمانية مقابل رفع القيود على هجرة اليهود لفلسطين. وقدم قروضا سخية للفلاحين الفلسطينيين مقابل ضمان اراضيهم ثم استولى عليها لأنهم عجزوا عن تسديد ديونهم.
للمرء أن يتساءل، كيف أمكن لهذه الحركة الإستيطانية الصهيونية ان تنشط في فلسطين طيلة عقود من الزمن وكأنها أرض مستباحة، والحال أنها كانت تحت إدارة وحماية الدولة العثمانية، بل والجزء الأهم من أرض فلسطين أي مدينة القدس، ويافا، وغزة، و الخليل، وبئر السبع كانت تخضع مباشرة لسلطة الحكومة المركزية في إسطنبول؟
تمتّع اليهود تاريخيا بوضع خاص في الإمبراطورية العثمانية. مع نهاية القرن الخامس عشر ميلادي كانت الولايات العثمانية الملاذ الآمن ليهود إسبانيا بعد طردهم من الأندلس إثر سقوط غرناطة سنة 1492، فعندما أُغلقت في وجوهمم أبواب أوروبا احتضنتهم الدولة العثمانية ومنحتهم حرّيتهم الدينية، ودمجتهم في المجتمع العثماني بجميع مجالاته. يقول المستشرق البريطاني برنارد لويس في كتابه “إسطنبول وحضارة الخلافة الإسلامية”: “ازداد عدد اليهود في إسطنبول منذ نهاية القرن الخامس عشر بصورة خاصة؛ إذ جاء الكثيرون منهم من إسبانيا والبرتغال والبلاد الأوروبية الأخرى إلى حكم السلاطين العثمانيين المتسامح، باحثين عن مكان للّجوء إزاء اضطهاد المسيحيين لهم”.
على امتداد قرون من الزمن خضع اليهود في جميع ولايات الخلافة العثمانية لنظام الملّة، الذي ضمن لهم ممارسة شعائرهم الدينية، وحرية التملك، وحرية التنقل، في الوقت الذي شهدوا فيه المجازر والتهجير في أوروبا. وينقسم يهود الإمبراطورية العثمانية إلى ثلاثة أنواع: أولا، اليهود القدامى الذين عاشوا منذ قرون في فلسطين أو في الأقطار العربية الأخرى ويطلق عليهم المستعربين أو اليهود العرب. ثانيا، اليهود السفارديم (نسبة إلى سفارد أي إسبانيا بالعبرية) الذين طردوا من إسبانيا، ومنحت الدولة العثمانية لزعيمهم صفة رسمية وهي صفة “حاخام باشي”، وكان يقيم في العاصمة إسطنبول. هؤلاء اليهود المستعربين أو السفارديم كانوا رعايا للسلطان العثماني ويتنقلون بحرية من فلسطين و إليها، أقاموا في القدس، وطبريا، و الخليل، وصفد وكان تعدادهم في حدود الخمسة ألاف نسمة. أما النوع الثالث من اليهود فهم اليهود الأشكيناز أو الأشكينازيم، الذين هاجروا من وروسيا وأوروبا الشرقية ابتداء من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وكانوا في حدود الثلاثين الف نسمة، وقد حافظوا على جنسيات بلدانهم الأصلية، ويتمتعون بكل امتيازات الرعايا الأجانب. أدى الوهن الذي أصاب الإمبراطورية العثمانية وهزائمها العسكرية المتتالية إلى تنافس الدول الأوروبية للسيطرة على أراضيها أو أراضي الممالك التي كانت تدور في فلكها، فاحتلت فرنسا مملكة تونس سنة 1881، وبريطانيا مملكة مصر سنة 1882. وأصبح للقناصل الأوروبيين المعتمدين لدى الباب العالي في إسطنبول أو بقية الولايات العثمانية نفوذا كبيرا. وقد تسابقت العواصم الأوروبية على بعث قنصليات لها بالقدس منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما كان المشروع الصهيوني في مرحلته الجنينية، حيث أنشأت بريطانيا أول قنصلية لها سنة 1838، ثم تبعتها فرنسا وبروسيا سنة 1843، والولايات المتحدة الأمريكية سنة 1857 وروسيا سنة1861. وساهمت هذه القنصليات بشكل مركزي في توطين المهاجرين اليهود بفلسطين ودافعوا عن حقهم في تملّك العقارات والأراضي باعتبارهم رعايا لهم. استغل المستوطنون اليهود بوصفهم حاملين لجنسيات أوروبية فرمان تملّك الأجانب الذي صدر سنة 1867 لشراء الأراضي والعقارات بفلسطين دون الحاجة لموافقة خاصة من الإدارة العثمانية. حيث سمح هذا الفرمان لكل الأجانب سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو شركات بحق التملّك في جميع ولايات الدولة العثمانية باستثناء الحجاز.
كان السلطان عبد الحميد الثاني الذي حكم لمدة زادت عن ثلاثين سنة من سنة 1876 إلى سنة 1909 الرجل القوي في الدولة العثمانية خلال هذه الفترة الأولى من الإستيطان الصهيوني في فلسطين. لم يكن عبد الحميد الثاني سلطانا ضعيفا في قصره، بل مارس حكمًا فرديًا مطلقا، بعد سنتين فقط من توليه الحكم خلفا لشقيقه مراد الخامس انفرد بالسلطة وقام بحل مجلس المبعوثان (النواب) ووضع حدا للتجربة النيابية العثمانية التي استمرت عاما واحدا. عُرف بحنكته السياسية وفطنته في إدارة الشأن العام ودرايته بكل ما يحدث في مشارق الأرض ومغاربها وخاصة شؤون الدول الأوروبية التي لم تكن تُخفي أطماعها في السيطرة على أجزاء من الإمبراطورية العثمانية. يقول المفكر جمال الدين الأفغاني متحدثا عن مناقب السلطان عبد الحميد الثاني ما يلي :”إن السلطان عبد الحميد لو وُزن بأربعة من نوابغ العصر لرَجَحَهم ذكاءً ودهاءً وسياسة، خصوصا في تسخير جليسه، ولا عجب إذا رأيناه يذلل ما يُقام في مُلكه من الصعاب من دول الغرب، ويُخرج المناوئ له من حضرته راضيًا عنه مُقتنعا بحجته”.
اختلف المؤرخون حول موقف السلطان عبد الحميد الثاني من الإستيطان الصهيوني في فلسطين. اعتبر البعض أنه كان السد المنيع أمام المشروع الصهيوني، ولقبوه بالسلطان المظلوم، وأن السبب الرئيسي لعزله من منصب الخلافة هو رفضه التفريط في أرض فلسطين. ومن أبرز هؤلاء المؤرخ التركي أحمد آق كوندز القائل: “إن الحاقدين على الأتراك عامةً والدولة العثمانية خاصةً لا يملّون من قلب حقائق التاريخ… ومنها مواقف الدولة العثمانية في فلسطين. إذ يُلقي الذين يجهلون النظام القانوني والسياسي المُنفّذ في أراضي فلسطين بثقل النوائب والنكبات التي أصابت العالم العربي على عاتق الدولة العثمانية”. في حين حمله البعض الآخر من المؤرخين المسؤولية السياسية والأخلاقية للإستيطان الصهيوني، ومن أبرز هؤلاء الباحثة والمؤرخة الأردنية فدوى نصيرات التي بينت في كتابها، “السلطان عبد الحميد الثاني والصهيونية”، ان عهد عبد الحميد الثاني شهد إزدياد عدد المستوطنين اليهود في فلسطين إلى ثلاثة أضعاف، حيث كان عددهم لا يتجاوز 24 ألف نسمة سنة 1882 ليصبح حوالي 80 الف سنة 1908 أي سنة واحدة قبل عزله واستلام شقيقه محمد الخامس السلطة سنة 1909.
المتأمل في أرشيف الدولة العثمانية يلاحظ أن أول موقف رسمي للدولة العثمانية حول هجرة اليهود إلى فلسطين كان في شهر نيسان/أبريل سنة 1882، ونص على أنه لا يُسمح لليهود المهاجرين إلى أراضيها بالإستقرار في فلسطين، ولكن في المقابل يسمح لهم بالإستقرار داخل أي ولاية عثمانية أخرى بشرط ان يصبحوا رعايا عثمانيين، وأن يلتزموا بفرامانات الإمبراطورية العثمانية. وتتلتزم الدولة العثمانية بإعفاء هؤلاء المهاجرين اليهود من الخدمة العسكرية، وتمكينهم من أراضي حكومية معفاة من الرسوم، وضمان حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية، والسماح لهم بالإستقرار في مجموعات، شرط أن لا تتجاوز المجموعة 150 عائلة في المنطقة الواحدة. ورغم كل هذه التنازلات من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني فإن الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية خاصة واصلت ممارسة ضغطها على الباب العالي لرفع كل القيود المفروضة على هجرة اليهود إلى فلسطين، وستضطر الدولة العثمانية سنة 1888 إلى التراجع عن كل هذه القيود وستصرّح بأن التعليمات تتعلّق فقط بالمهاجرين الوافدين بأعداد كبيرة وليس على الذين يأتون فرادى.
أدرك المقدسيون خطورة حركة الإستيطان الصهيوني في فلسطين لكن للأسف بشكل متأخر نسبيا، فقاموا في 24 من شهر حزيران/يونيو سنة 1891 بتقديم عريضة إلى الصدر الأعظم (أي رئيس الوزراء) في الدولة العثمانية موقعة من خمسمئة شخصية مقدسية طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين وتحريم تملّكهم للأراضي. ونبهت كذلك عديد الصحف العربية مثل الأهرام والمقطّم إلى أطماع الحركة الصهيونية وسعيها إلى تهويد فلسطين. وحذّرت النخب العربية الباب العالي من خطورة المشروع الصهيوني، منهم المفكر المصري محمد رشيد رضا، الذي نشر عدة مقالات في مجلته المنار، وكذلك المفكر القومي العربي نجيب عازوري الذي شرح بإطناب في كتابه “يقظة الأمة العربية” الأطماع الصهيونية في فلسطين ونشر عدة مقالات في صحيفتي الإخلاص والمقطم حول الإستيطان الصهيوني، وكشف عن تورط الولاة العثمانيين المرتشين في بيع الأراضي للمنظمات الصهيونية، وخص بالذكر كاظم بك حاكم القدس ونذكر من مقالاته، “وعيد وتهديد” و “أملاك الدولة بالمزاد” وحمّل نجيب عازوري السلطان عبد الحميد الثاني مسؤولية الإستيطان الصهيوني بفلسطين.
قام الفلاحون الفلسطينيون بالتصدّي لحركة الإستيطان الصهيوني، فهاجم سنة 1883 أبناء قرية (الجاعونة) من قضاء صفد مستعمرة روش بينا، وهاجم في آذار سنة 1886 الفلاحون المطرودون من أرضهم في الخضيرة وملبِّس مستوطنة “بيتح تكفا”. وفي أواخر تشرين أول (أكتوبر) سنة 1888 شن مزارعون فلسطنيون هجوما على مستوطنة “غديرة”. ونتيجة تصاعد التوتر بين المستوطنين اليهود و الفلاحين الفلسطينيين أصدر السلطان عبد الحميد الثاني ثلاث فرمانات بين سنتي 1890 و1891 تقضي بوضع حد لهجرة اليهود إلى فلسطين محذّرا من أن هدفهم هو إقامة دولة يهودية والإضرار بمصالح السكان الفلسطينيين. وأصدر سنة 1892 الأوامر لمتصرف القدس ابراهيم حاجي باشا بمنع بيع الأراضي الميرية (أراضي الدولة العثمانية) في فلسطين لليهود حتى ولو كانوا رعايا عثمانيين. وأن ليسمح لليهود بدخول البلاد فقط كحجيج لأماكنهم المقدسة، وعلى كل يهودي يصل إلى يافا أن يدفع 50 ليرة تركية لقاء تعهده بمغادرة البلاد خلال 31 يوماً.
لكن للأسف كل هذه الفرمانات والأوامر لم يُؤخذ بها، وسياسة الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد ستكون مناقضة لروح هذه الفرمانات لأنه بعد صدور هذه الفرمانات قام تيودور هرتزل مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية بخمس زيارات إلى اسطنبول بين سنتي 1896 و 1902، اثنتان منها كانتا على نفقة الباب العالي، والتقى بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني في الثامن عشر من شهر أيار/مايو سنة 1901، وطلب منه السماح بهجرة اليهود إلى فلسطين مقابل تسهيل تمكين الامبراطرية العثمانية من قروض لتجاوز أزمتها المالية الحادة، و كذلك الإلتزام بوضع حد للدعم الأوروبي للأرمن المطالبين بالإستقلال عن الباب العالي. ومنح السلطان عبد الحميد الثاني وساما رفيعا لتيودور هرتزل، وأكرم وفادته طمعا في الدعم المالي والسياسي من المنظمة الصهيونية العالمية للدولة العثمانية التي كانت على حافة الإفلاس. السلطان عبد الحميد الثاني كان يعتقد انه أكثر دهاء من زعماء الحركة الصهيونية ولعب بالنار التي احرقت فلسطين رغم أنه كان على وعي بخطورة المشروع الصهيوني منذ بدايته فقد كتب في مذكراته ما يلي: “إن الصهيونية لا تريد أراض زراعية في فلسطين لممارسة الزراعة فحسب، ولكنها تريد أن تقيم حكومة ويصبح لها ممثلون في الخارج. إنني أعلم أطماعهم جيداً، وإنني أعرف هذه السفالة، لأنهم يظنون أنني لا أعرف نواياهم، لن أقبل بمحاولاتهم، وليعلموا كم فرداً في إمبراطوريتنا يكنّ لليهود الكراهية، طالما هذه نواياهم، وأن الباب العالي ينظر إليهم مثل هذه النظرة، وأنني أخبرهم أن عليهم أن يستبعدوا فكرة إنشاء دولة في فلسطين، لأنني لا زلت أكبر أعدائهم”.
للتاريخ، كان السلطان عبد الحميد الثاني نصيرا للعرب و الفلسطنيين فقط بالفرمانات التي بقيت حبرا على ورق أما في السياسة الواقعية فقد ساهم بمواقفه المتضاربة وبفساد إدارته في تعزيز الإستيطان الصهيوني بفلسطين. كيف يمكن لهذا الرجل أن يكون نصير للعرب والفلسطنيين وفي عهده تم تشييد كل المستوطنات الصهيونية التي أُنشأت خلال الهجرة الأولى والتي جلبت بين 20 الف و30 الف مستوطن وثلثي المستوطنات خلال الهجرة الثانية والتي جلبت بين 35 الف و 40 ألف مستوطن؟ كيف يمكن لهذا الرجل ان يدعي أنه تصدى للمشروع الصهيوني وهو الذي منح وساما رفيعا لمؤسسه تيودور هرتزل؟
يوجد مقطع فيديو صامت بالأبيض والأسود يُتداول على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير، ويظهر فيه تيودور هرتزل منحنيا امام السلطان عبد الحميد الثاني. هذا المقطع ليس حقيقيا بل هو مأخوذ من فيلم نمساوي يحمل عنوان “تيودور هرتزل حامل راية الشعب اليهودي” لمخرج نمساوي صهيوني اسمه أوتو كرايزلر وظهر في عشرينات القرن الماضي.
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ساهمت ثلاثة عوامل رئيسية في انطلاق الهجرة الصهيونية الثانية إلى فلسطين، أولها المذابح التي تعرّض لها اليهود في روسيا القيصرية في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عقب اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني سنة1881 واتهام اليهود بالضلوع فيه. وبلغت ذروة حركة تهجير اليهود الروس بعد مذبحة مدينة كيشينيف، كيشينيف هي عاصمة مولدوفيا اليوم، التي وقعت سنة 1903، وراح ضحيتها حوالي 49 يهودي وتم حرق وتدمير عشرات المنازل والمحلات التجارية في الأحياء اليهودية. هاجر اليهود الميسورين إلى الولايات المتحدة الأمريكية اما الفقراء والمعدمين فقد تم تهجيرهم عبر الشبكات الصهيونية إلى فلسطين.
أما العامل الثاني فهو الصعود المتنامي لمعاداة السامية في كافة أنحاء أوروبا خاصة بعد ظهور وثيقة بروتوكولات حكماء صهيون، وهي وثيقة مدلسة من صنع فرع جهاز الأمن السري الروسي(أُكرانا) Okhrana، تشرح مخططا يهوديا مزعوما يتكوّن من 24 بروتوكولا للسيطرة على العالم. الوثيقة التي صدرت في كتاب سنة 1905 وثبت أنها اقتباس لرواية خيالية صدرت سنة 1864 للأديب الفرنسي موريس جولي Maurice Joly حملت عنوان، حوار في الجحيم بين ماكيفيلي ومنتسكيو، ينتقد فيها موريس جولي سياسة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث. هذا الكتاب القائم على نظرية المؤامرة سيُترجم إلى عدة لغات، وسينتشر انتشار النار في الهشيم في أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية، وسيتحول إلى إنجيل كل الحركات العنصرية المعادية للسامية. تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية لأول مرة سنة 1951 من طرف الكاتب المصري محمد خليفة التونسي، ولقبه التونسي نسبة إلى مسقط رأسه وهي قرية تونس الموجودة في محافظة سوهاج بصعيد مصر. محمد خليفة التونسي كان من تلاميذ الأديب المصري عباس محمود العقاد الذي قام بتقديم ترجمته لبروتوكولات حكماء صهيون. وجد هذه الكتاب ولايزال رواجا كبيرا في العالم العربي وعاد بالوبال على فهمنا لجوهر المشروع الصهيوني، وشجع على ترويجه النظام الرسمي العربي لأنه وجد فيه كل مبررات هزائمه العسكرية والسياسية والثقافية أمام الكيان الصهيوني.
ومن أوائل الكتاب والباحثين العرب الذين نفوا أي مصداقية لما حمله هذا الكتاب نجد الباحث المصري عبد الوهاب المسيري صاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، الذي اعتبر ان بروتوكولات حكماء صهيون خرافة عنصرية مضللة خدمت الصهيونية وأضرّت بعدالة القضية الفلسطينية.
والعامل الثالث والهام الذي سيساهم في تسريع هجرة اليهود إلى فلسطين هو قانون الحد من هجرة الأجانب إلى بريطانيا الذي أصدره اللورد بلفور سنة 1905 لإيقاف هجرة اليهود الفارين من المذابح في روسيا القيصرية. اللورد بلفور الذي يعتبر اليوم بطلا قوميا في إسرائيل، وصديق للشعب اليهودي، كان في بداية القرن عندما شغل منصب رئيس الوزراء معاديا للسامية، برر خلال نقاش برلماني سنة 1905 رفضه استقبال المهاجرين اليهود الفارين من جحيم معاداة السامية في روسيا بأن اليهود يتزوجون فيما بينهم فقط، وليس لهم أي استعداد بأن يندمجوا في الأمة البريطانية. المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند يعتبر ان قانون منع هجرة الأجانب الذي صدر سنة 1905 بانجلترا، وقانون مماثل له صدر بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1924 ساهما في إقامة دولة إسرائيل بقدر مساهمة وعد بلفور الذي صدر سنة 1917.
موجة الهجرة الثانية التي وقعت بين عامي 1904 و1914 وبلغ مجموعها ما بين 35 إلى 40 ألف يهودي روسي كان أغلبهم من أصحاب التوجهات العمالية الصهيونية، سيعملون على تنفيذ أفكارهم على أرض فلسطين، فظهرت أول التجمعات الزراعية التعاونية اليهودية التي تعرف باسم الكيبوتسات. والكيبوتس كلمة عبرية تعني التجمع، وهو مستوطنة زراعية عسكرية تضم بين بضع عشرات ومئات المستوطنين من عمال و مزارعين يعملون بشكل جماعي تعاوني. ويقوم الكيبوتس على الإدارة الذاتية، والملكية الجماعية لأدوات الإنتاج، وتقاسم المنتوج بالتساوي بين كل أفراده.
سعى هذا التيار الصهيوني الإشتراكي إلى مصالحة اليهودي مع الأرض، فيهودي الشتات في تقديره فقد ذاته لأنه فُرض عليه العمل في مهن معينة، مثل التجارة، ولم يُسمح له بخدمة الأرض. تعود هذه الفكرة للحاخام الصهيوني الألماني تزيفي هيرش كاليشر الذي عاش بين سنتي (1795-1874) والقائل في كتابه “السعي لصهيون”: “إن خلاص اليهود لا يكون على يد مسيح منتظر، وإنما عن طريق الجهد البشري اليهودي، لتخليص أنفسهم بالمبادرة إلى بناء مجتمع يعتمد على ارتباط اليهودي بأرض يزرعها تكون بمنزلة وطن قومي له، ولا يتم ذلك إلا في فلسطين”. تبنّى هذه الفكرة المفكّر الصهيوني العمالي آرون دافيد جوردون والذي عاش بين سنتي (1856-1922)، وهو من أهم رموز الهجرة الثانية إلى فلسطين. جوردون سيدعو إلى تأسيس “دين العمل”، ويرى أن تحرر الشعب اليهودي وغسل أدران المنفى لن يكون إلا بالعودة إلى العمل الزراعي. ويرى جوردون ان الطبقة العاملة اليهودية هي التي ستبني الدولة اليهودية وحرّض العمال اليهود على الإضرابات ضد المزارع التي كانت تؤجر العمال العرب.
ساهم التيار الصهيوني العمالي بشكل فعال في بناء النواة الأولى للكيان الصهيوني وسينجب أهم رموزه مثل دافيد بن غوريون وغولدا مائير وموشي دايان. من أهم عوامل نجاح المشروع الصهيوني هو التقسيم الوظيفي الذكي بين مختلف تياراته، فالتيار الصهيوني العمالي ساهم بالمادة البشرية والمتكونة أساسا من يهود روسيا وأوروبا الشرقية، و التيار الصهيوني التوطيني المقيم في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ساهم بجمع الأموال و الوكالة اليهودية في فلسطين قامت بالإشراف على توظيف الأموال وشراء الأراضي وإقامة المسستوطنات.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ارتبط مصير الحركة الصهيونية عضويا بمصير الإستعمار البريطاني، لأن بريطانيا أصبحت الوريث الرئيسي لتركة العثمانين في الشرق الأوسط، فساندت الثورة العربية على الباب العالي التي أطلقها والي مكة الشريف حسين في العاشر من حزيران (يونيو) سنة 1916، وكلّفت توماس ادوارد لورنس، ضابط المخابرات في قسم الخرائط لدى القيادة العليا للجيوش البريطانيّة في القاهرة بمهمّة تأطير هذه الثورة. قبل الحرب العالمية الأولى كانت الإمبراطورية العثمانية تسمى في العواصم الغربية بالرجل المريض لكن بعد هزيمتها اثر تحالفها مع ألمانيا تحولت إلى جثة هامدة، وسيتم تقسيم تركتها كغنيمة حرب بين فرنسا و بريطانيا بمقتضى معاهدة سايكس/ بيكو Picot ، وهي معاهدة سرية وُقّعَت بين كلٍّ من باريس ولندن تحت إشراف روسيا القيصرية سنة 1916، وأمضاها كل من “مارك سايكس” المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى، ونظيره الفرنسي “جورج پيكو Picot”، ونصّت هذه المعاهدة على تقسيم المنطقة العربيّة التي تقع في الجزء الشرقيّ من البحر الأبيض المتوسط، والخاضعة لسيطرة الدولة العثمانيّة بين كلٍّ من بريطانيا وفرنسا. بعد عام واحد من اتفاقية سايكس پيكو بعث وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور الذي تحول من معاد للسامية إلى مسيحي صهيوني برسالته الشهيرة إلى عرّاب المشروع الصهيوني اللورد روتشيلد، و المعروفة بوعد بلفور، وجاء فيها ما يلي:
عزيزي اللورد روتشيلد،
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته: “إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.
المخلص آرثر جيمس بلفور.
وفي التاسع من شهر نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1917 دخلت القوات البريطانية بقيادة الجنرال إدموند ألنبي مدينة القدس لتصبح فلسطين غرب نهر الأردن وشرقه تحت السيطرة البريطانية.
(يتبع)…
*نجيب البكوشي باحث وكاتب تونسي
أهم المراجع:
*موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبد الوهاب المسيري، الناشر، دار الشروق، 2004.
*دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين ( 1876-1909)، فدوى نصيرات، مؤسسة دراسات الوحدة العربية، بيروت، آذار/مارس 2014.
*ياكوف رابكن، المناهضة اليهودية للصهيونية، ترجمة، د. دعد قنّاب عائدة، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، آذار/مارس 2006.
* شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة سعيد عيّاش، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 2011.
*شلومو ساند، اختراع “أرض إسرائيل”، ترجمة أنطوان شلحت وأسعد زعبي، صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، مدار، 2014.
*الاستيطان والهجرة في الفكر الصهيوني 1864-1939، سميح شبيب، مركز الأبحاث الفلسطيني https://www.prc.ps/